سابقاً، لم يَكن شيء يُنافِس "القمّة العربيّة" (على مستوى المُلوك والأمراء والرؤساء) سنويّاً، كمناسبة للمَرَح، إلا قمّة "مجلس وزراء الداخليّة العرب". كان الفارق في التغطيّة الإعلاميّة لمصلحة الأولى، طبعاً. وزير الداخليّة، في أيّ دولة عربيّة، هو شيء مُخيف.
هذه هي الصورة النمطيّة المطبوعة في وعي أجيال. غالباً، لا يُعطى هذا المنصب إلا للشخص الأكثر "بطشاً". الشخص الأكثر موهبة في "فنون" القمع والتعذيب والإخفاء والسحل. لم يأتِ نفور الناس، العرب، مِن صورة "الشرطي" في بلادهم مِن فراغ. لهؤلاء وزراء الداخليّة، العرب، مجلسهم الخاص، وقد أنشئ قبل نحو أربعين عاماً. قبل نحو عشر سنوات، ومع انتشار الإنترنت في المنطقة العربيّة، شاع مقطع "فيديو" للإعلامي المصري إبراهيم عيسى يَسخر فيه مِن القمم العربيّة، التي وصفها بقمم "السخافة والتناحة والخلافات والكلام الفاضي". في آخر المقطع، يقول: "مين اللي عمرهم ما اختلفوا؟ مين اللي كلّ سنة بيجتمعوا وقراراتهم موحّدة ومتزبّطة؟ عمرك لقتهم مختلفين؟ إطلاقاً. إنّهم وزراء الداخليّة العرب، أجدع مؤتمر بيحصل في الوطن العربي، وكلّهم متفقين، عارفين ليه؟ لإنّهم متفقين علينا". ذات مرّة، عندما تفتقت قريحة وزراء الداخليّة العرب، قرّروا أن يكون للشرطة العربيّة يومها السنوي. إنّه الثامن عشر مِن كانون الأوّل. وافقت السعوديّة على الأمر، رغم أنّه بالتقويم الميلادي، لكن لا بأس. المُهم، قرّرت مؤسسة قوى الأمن الداخلي في لبنان، هذا العام، أن تحتفل بالمناسبة بإذاعة كلمة الأمين العام لمجلس وزراء الداخليّة العرب، محمد بن علي كومان، على ضبّاطها وعناصرها. أذيعت الكلمة في سبع ثكنات ومراكز أمنيّة مركزيّة. كومان سعودي الجنسيّة. مسؤولو الشرطة في لبنان قرّروا تثقيف عناصرهم بأن يُحاضر فيهم الآتي مِن بلاد الرجم والجلد. وكأنّ هذا ما ينقصنا. هذا الذي، أي كومان، يشغل منصبه منذ نحو 16 عاماً، في حين ولايته (التي تُجدّد منذ ذلك الحين) مدّتها ثلاث سنوات فقط، يَجد اليوم مَن يَرى فيه شيئاً مُهمّاً إلى حد الاحتفاء بكلمته! هذا الذي سوف يَجعل شُرطتنا أكثر عمقاً في فلسفة الحريّات العامة والديموقراطيّة وحقوق الإنسان! صادف، ويا للصدف، أنّه قبل أيّام قليلة زجّت الشُرطة في السعوديّة، بلد كومان، بالمواطنة ملاك الشهري في السجن بسبب خروجها إلى الشارع بلا حجاب. كما صادف أيضاً، قبل مدّة، أن حكمت بلاد كومان على المواطن رائف بدوي بألف جلدة والسجن عشر سنوات لمجرّد رأي أبداه! مَن الذي نصح القوى الأمنيّة اللبنانيّة بأن تُهلّل وتُطبل لهذا الكومان! لنبتهل الآن وندعو ألا يتّخذ ضباط شرطتنا مِنه قدوة. وكأنّ ما فينا لا يكفينا!

قرّروا تثقيف عناصرهم
بأن يُحاضر فيهم الآتي مِن بلاد الرجم والجلد


جاء في الكلمة الأخيرة لكومان، المُحتفى به، أنّه: "يأتي الاحتفال بيوم الشرطة العربيّة لهذا العام، وبعض دولنا العربيّة ما تزال في معركة مستمرّة ضد قوى الإرهاب والتطرّف المقيت، والطائفيّة البغيضة التي تسعى جاهدة للنخر في جسد مجتمعاتنا والنيل مِن وحدتها، بعد أن عاشت قروناً طويلة من الانسجام والتعايش السلمي رغم تعدّد الديانات السماويّة واختلاف المذاهب العقائديّة وتنوّع الملل والنحل وتعدد الإعراق والأجناس". يا إلهي! تسمعه فتظنه مِن نيوزيلندا، مثلاً، وأنّه ليس مِن الضبّاط "الممتازين" سعوديّاً. ربّما فاته أن يقرأ فتاوى مفتي بلاده الحالي (آل الشيخ) أو السابق (ابن باز) الموغلة في التكفير، والداعية إلى القتل على المذهب... فضلاً عن الدعوة إلى "كسر الصليب".
تدخل إلى الموقع الإلكتروني للمجلس الذي يترأسه كومان، فتجد إلى جانب صورته صورة تمثّل عصارة أفكار الحداثة في مجال مكافحة المخدّرات، فيها "النرجيلة" ومعها عبارة: "لا للمخدرات: قال الرسول كلّ مُسكر حرام - رواه مُسلِم (لا علاقة للعقيد جوزف مسلّم بهذا الأمر)". بالمناسبة، مِن آراء كومان العظيمة، أن "مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت عموماً هو سبب الإرهاب". كيف خلص إلى هذه النظريّة الرهيبة؟ في محاضرة سابقة له، في جامعة "الملك" عبد العزيز آل سعود، قال: "أنا وجيلي كانت مناهجنا الدراسيّة تتضمن بنحو سبعين في المئة مواد دينيّة، ومع ذلك أنا لم أصبح إرهابيّاً، إذاً إسلامنا لا علاقة له بالإرهاب". طيّب ماذا عن الأفغان العرب، في ثمانينيات القرن الماضي، يا حضرة الكومان؟ لم يكن آنذاك إنترنت بعد. هذا الرجل، مسؤول العرب الأمني، يكره الإنترنت جدّاً. لنأمل ألا تتوطّد علاقته مع مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونيّة في لبنان. ومِن نظرياته العميقة، أيضاً، أنّه يَرى في إيران "دولة إرهابيّة". هكذا، إيران "لُكشة واحدة" إرهابيّة، ويضيف: "الإسلام مستهدف". ماشي، عاش الكومان مُحاضراً في قوى أمننا.