أسوأ ما يمكن أن يحدث في غمرة «النكبات» المتتالية التي نمرّ بها، أن تستحيل الدولة مثل جمعية «NGOs». تعالج مشاكلنا المزمنة بطريقة أقل ما يمكن وصفها بالسوريالية. فهذه الدولة التي تسير منذ 11 عاماً بقوّة الدفع الإلهي ـ بلا موازنات ـ قررت، اليوم، أن ترفّه عنا. أن تقول لنا: العبوا... بماذا؟ بالتعلّم على إعداد الموازنة. كما لو أن المشكلة تكمن في ضعف ثقافة إعداد الموازنة بين الناس، لا في سطو القلة على الدولة وتجييرها لخدمتها.
آخر إبداعات هذه الدولة، ممثّلة بمعهد باسل فليحان المالي والاقتصادي التابع لوزارة المالية، استبدال عجزها عن إقرار موازنة بلعبة تعلّمنا من خلالها كيف نعدّ موازنة بـ«حجر الزهر» ونصبح وزراء للمالية. قررت الدولة أن تسلينا بخطوات إعداد الموازنة الخمس، بدلاً من أن تتنطّح هي لإعداد الموازنة أو في أحسن الأحوال أن تهدي لعبتها إلى الوزراء والنواب، على أمل أن يتعلّموا كيفية العمل على إعداد موازنة وإقرارها.

هكذا، ابتكر معهد وزارة المال لعبة تُربح ثقافة مالية، على حدّ تعبيره، وسمّاها «فلوس The Game of»، وأطلقها في معرض بيروت العربي والدولي للكتاب، حيث «استقطبت اللعبة الصغار والكبار إلى الجناح». ويبدو أن المعهد عمل على جذب هؤلاء عبر شعار وضعه على علبة «الفلوس» وفيه: «لمّا إكبر، رح صير وزير مالية»! ولكن بالعودة إلى تفاصيل اللعبة، يشير المعهد إلى أنها تتضمن خمس مراحل، هي مراحل إعداد الموازنة وإقرارها بموجب الدستور والقوانين، وعلى المتحمسين لأن يصبحوا وزراء للمالية أن يجتازوا هذه المراحل حتى يصلوا إلى المرحلة الأخيرة: «برافو».
تتسم المراحل الخمس الأولى للعبة بأنها تنقسم وفق المهل الحقيقية لإعداد الموازنة، أي إن المرحلة الأولى هي «من 1 نيسان إلى 31 أيار»، وفيها تُعدّ كل وزارة موازنتها وترسلها إلى وزارة المالية. أما الثانية «فتبدأ من الأول من حزيران حتى 31 آب، وفيها توحّد وزارة المالية كل الموازنات وتُعدّ مشروع الموازنة الذي تقدّمه في ما بعد إلى مجلس الوزراء، والثالثة من الأول من أيلول إلى 30 منه، وفيها يدرس مجلس الوزراء مشروع الموازنة العامّة ويقرّه ويرسله إلى مجلس النواب». هكذا دواليك حتى المرحلة الأخيرة، حيث يُعلن اسم الفائز الذي يصل إلى خانة إقرار الموازنة في مجلسِ النواب، وهي الأخيرة من الخانات الـ33 التي تتألف منها «الرقعة». وهذه الخانات بدورها تنقسم ما بين خانات «الفرص» و«العراقيل» و«الأسئلة»، التي ستؤول في نهاية المطاف إلى نتيجتين: إحداهما ستقول لنا: برافو، لأننا «أعددنا الموازنة وفقاً للأولويات المحددة في البيان الوزاري ونجحنا في خفض الدين العام هذه السنة» ـ وهنا قمة السوريالية ـ والثانية ستأسف لأن وزارتنا أساءت تقدير موازنتها، ما أدى إلى تخطي السقف المحدد للنفقات. وهي أفضل ترجمة لواقعنا اليوم. أما الخانة التي يمكن أن تبعث على الضحك، فهي خانة الأسئلة التي ستوصلنا في نهاية المطاف إلى معرفة حقيقة وضعنا المالي.
كان على مصممي هذه اللعبة أن يصارحوا المتبارين بأن الوصول إلى منصب وزير المالية ليس مشروطاً بعبور كل هذه المراحل. فمنذ عام 2005 فشل جهاد أزعور ومحمد شطح وريا الحسن ومحمد الصفدي وعلي حسن خليل في اللعبة، ولكنهم فازوا بالمنصب. في هذا الوقت استمرت مديونية الدولة بالتحليق إلى مستويات قياسية جديدة لتبلغ حالياً أكثر من 120 مليار دولار، وأُنفقت آلاف مليارات الليرات من دون أي سند قانوني.