الأرجح أن مدينة بعلبك ستكون على موعد مع صيف جافّ مقبل يرث صيفها الماضي، وقد يكون أكثر حدّة من سابقه، بسبب نضوب نبع البياضة الأقدم من المدينة نفسها، الذي يُعدُّ مصدر المياه الأساسي لأهاليها. في النتيجة الوضع كارثي، إذ يُضاف إلى أزمة المياه الملقاة عليهم، تغييرات في القيم الثقافيّة والتراثيّة والعمرانيّة والاجتماعيّة التي خلّفها النبع في ذروته، ومن ثمّ في جفافه.
تتعدّد أسباب جفاف النبع بحسب الخبراء والمعنيين، لكن بدلاً من حلّ الأزمة لحفظ البعض من حقوق الناس الطبيعيّة والحفاظ على أحد معالم المدينة، يتصدّر تراشق الاتهامات ورمي المسؤوليّات الواجهة.

جذور المشكلة

ليست الأزمة مستجدّة، بل تعود إلى العامين 1996 و1997، عندما أرسل الخبير الجيولوجي فتحي شاتيلا عدداً من الرسائل والكتب إلى وزارة الطاقة والمياه، والمدير العام للاستثمار فيها، ومجلس الإنماء والإعمار، وهيئة التفتيش المركزي، ونواب المنطقة، ضمّنها مجموعة من الهواجس المُقبلة على المنطقة تُنذر بأزمة مياه فيها، استقاها من دراسة وبحوث علميّة أجريت حول الينابيع فيها، مقترحاً حلولاً عملانيّة لتدارك أي أزمة قبل وقوعها. لكنها بقيت أشبه برسائل معلّقة لم يحرّك أحدٌ ساكناً تجاهها.
ويفنّد شاتيلا في إحدى رسائله الدراسة التي أجرتها وزارة الطاقة والمياه لتوفير مياه الشفة بواسطة عشر آبار شرقي رأس العين (مجرى نبع البياضة)، وضعت ارتجالياً وعشوائياً بما لا يحافظ على مواردها (يومها كانت انتهت من حفر 5 آبار وباشرت بحفر الخمس الباقية).
فارتكزت وزارة الطاقة يومها على الحجج التي وضعتها الشركة الهندسيّة الاستشاريّة المكلّفة دراسة المشروع، وتفيد بأن "المياه المُستثمرة في هذه الآبار عميقة، فيما يتغذّى نبع رأس العين من مياة سطحيّة". وهي حجج غير منطقيّة ولا علميّة، بحسب دراسة شاتيلا، خصوصاً أن هذه الآبار تقع في حوض النبع، وكلّ نقطة مياه تستثمر بواسطتها، مصدرها المخزون الديناميكي المتحرّك للنبع، وتالياً ضخّ المياه منها، سيؤدّي حتماً إلى تدنّي تصريف النبع، ويوصل مستقبلاً إلى جفافه. عقدان من الزمن كانا كفيلين بتأكيد هذه النظريّة، إذ يدفع أهالي المدينة الثمن جفافاً اليوم!

خطط البلديّة

تحاول البلديّة الحالية مواجهة أزمة الجفاف التي بدأت منذ الصيف الماضي، ووضع خطط لمعالجتها. يقرّ رئيس البلديّة العميد حسين اللقيس، بأن الآبار حُفرت في حوض رأس العين، ولكن على بعد 2-3 كيلومترات منه، معيداً الجفاف في آبار عمشكي والعسيرة إلى "شحّ المتساقطات"، واستفحال الأزمة إلى عوامل عدّة، أبرزها "زيادة حجم الاستهلاك المرتبط بالنمو السكاني المتزايد المتأثّر بأعداد النازحين السوريين، والفوضى العمرانيّة التي شهدتها المنطقة خلال الحرب الأهليّة".
يشير اللقيس إلى أن "البلدية الحالية تستكمل الخطط التي بدأتها سابقتها لمعالجة الأزمة، وتتابع تنفيذ وعد رسمي بحفر ثلاث آبار لمياه الشفة في المدينة، خارج حوض رأس العين، خصوصاً أن التمويل موجود، بانتظار التلزيم عبر مجلس الإنماء والإعمار، المفترض إنهاؤه خلال الأشهر المقبلة".

دعوى على مصلحة مياه بعلبك

تؤكّد الدراسات ترابط
أحواض الآبار التي تخرج من البياضة بأزمة المياه


لا تتوقف المشكلة هنا، فقد رفع عدد من أهالي بعلبك دعوى على مصلحة مياه بعلبك – الهرمل، بسبب سوء تنفيذ حفر الآبار، ولأن سحب المياه منها أدّى إلى جفاف النبع. كذلك يتّهمون البلدية بالتفريط بمواردهم الطبيعيّة. يرتكز المحامي أحمد وهبي (وكيلهم بالدعوى) على التوصيات التي وضعتها شركة RIMEXI التي كلّفتها البلديّة السابقة دراسة الواقع المائي، وأكّدت ترابط أحواض آبار اللقيس وعثمان وقيس وبئر مصلحة المياه التي تخرج من نبع البياضة، متسائلاً عن الأسباب التي تدفع البلدية الحالية إلى عدم الأخذ بها.
ويشير وهبي، مرتكزاً على الدراسة، إلى أن الحلّ يكون "بإيجاد مصادر مائيّة جوفيّة جديدة، عبر آبار عموديّة أو أفقيّة بجاذبيّة لا تؤثّر بمياه نبع البياضة، من خلال دراسات هيدرولوجيّة مفصّلة من قبل متخصّصين، على أن يكون العمل خلال فترة تغذية المياه الجوفيّة (أي فصل الشتاء)، على أن تتوقّف أعمال الضخّ من الآبار كلياً خلال فصل الصيف، وإذا تعذّر ذلك، ينصح عندها بالتقنين الكثيف. مع وجوب المحافظة على حقوق المزارعين بريّ أراضيهم من نبع البياضة، والطلب من جميع أصحاب الآبار الإرتوازيّة المحيطة بالنبع والقريبة منه أخذ حاجة مؤسّساتهم في شكل مدروس ومقنّن، ووضع عدادات على آبارهم، والتنسيق بين مؤسّسة مياه بعلبك وبلدية بعلبك لإيجاد البدائل أي تأمين مصادر مائيّة جديدة قبل فصل الصيف".
عملانياً، يبقى الأهالي وحيدين في مواجهة الجفاف، بانتظار انفراج المساعي التي تقوم بها البلديّة ومصلحة المياه، والخطوات التنفيذيّة السريعة لاستباق الأزمة المؤكّدة.