في هذا النهار يكون الرئيس سعد الحريري دخل في يومه الـ 33 لتأليف اولى حكومات العهد، كأنه لما يزل في الايام الاولى من المشاورات. ظاهر التعثر نفسه الحقيبة التي يصر عليها النائب سليمان فرنجيه، وباطنه اسباب شتى معلومة ومضمرة، مؤكدة وغامضة، مباشرة وملتوية:منها اولاً الاشتباك المستجد بين الثنائيتين الشيعية والمارونية بدوافعه المختلفة، لكن اكثرها بروزاً اتخذ منحى طائفياً هو السجال الذي دار في 16 تشرين الثاني. بدأ في بكركي بقول رئيس الجمهورية ميشال عون ان التمديد لمجلس النواب تسبب بالفساد، فرد رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن عزاه الى تعطيل انتخاب الرئيس.

ثم انتقل رد الفعل الى المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى متحدثاً عن الاصرار على الشراكة ما ان صدر كلام الرئيس من على درج الصرح البطريركي، في سابقة غير مألوفة في تناحر الزعماء والسياسيين وخلافاتهم. للفور تدارك هؤلاء الاشتباك، بيد انه ترك بصماته.
منها ثانياً اهدار الوقت الكافي للحؤول دون الخوض في قانون جديد للانتخاب، وربما لتشريع احتمال تمديد ثالث للبرلمان بحجة تقنية. حصل ذلك على التوالي عامي 2013 و2014. بدأ الكلام عن استعجال قانون جديد للانتخاب، ثم صارت المفاضلة بين اجراء الانتخابات وفق قانون 2008 النافذ او تمديد الولاية، ثم انتهت المفاضلة بأن اصبحت بين التمديد او الدخول في الفراغ. اقتضى الوصول الى هذا الاستنتاج اهدار الوقت المتبقي لاجراء الانتخابات النيابية حينذاك. اللعبة نفسها تدور الآن على نفسها: لا وقت لقانون جديد، من الآن الى نيسان المقبل الخيار بين انتخابات وفق قانون 2008 او التمديد، بعد نيسان يصبح الخيار بين التمديد والفراغ.
منها ثالثاً اتفاقات ثنائية لا تقتصر على التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية حيال تقاسم الحقائب، بل تشمل الرئيس المكلف نفسه بتعهده حقيبة للقوات اللبنانية من حصة رئيس المجلس كالاشغال، واصراره على عدم مسّ حقائب تيار المستقبل كما لو انه وحقائبه ــــ كالاتصالات التي يطالب بها فرنجيه ــــ خارج المقايضة، ناهيك بوعوده لفرنجيه بحقيبة كالتربية ــــ كاشف بري بها ــــ في وقت يتمسك التيار الوطني الحر بها. شأن تعهدات التيار الوطني الحر للقوات اللبنانية بالتضامن معها في حصولها على حقائب تعادل وزنها السياسي، يتصرّف الحريري كما لو انه في قلب الاتفاقات الثنائية تلك: يريد ان يعطي حليفه القديم سمير جعجع من دون ان يأخذ من حليفه الجديد الوزير جبران باسيل.

حمل الحريري
الى عون مسودة علي حسن خليل ونادر الحريري فاستمهله عودة صهره


منها رابعاً الخروج على قاعدة لم تسرِ فحسب في الحقبة السورية، بل استمرت في المرحلة التالية منذ عام 2005 عقداً من الزمن. بقضي الخروج على القاعدة تلك بتجاهل الفريق الشيعي في مساعي التأليف. مذ كُلّف الحريري اشاع المحيطون به كما برئيس الجمهورية ان التأليف سيراعي احكام الدستور اكثر من اي مرة سابقة ــــ وهو ما لم يفعله الحريري في حكومته الاولى عام 2009 ــــ بحصره برئيس الجمهورية والرئيس المكلف. عنى ذلك اولاً اهمال دور الشريك الشيعي في مساعي التأليف، قبل ان يُفصَح في ما بعد عن وجود فريق مسيحي آخر شريك في التأليف هو القوات اللبنانية، سواء في توزيع الحقائب المسيحية او في فرض فيتوات على حقائب. لم تقل الثنائية المسيحية الجديدة بتحديد الحقيبة التي يحوزها فرنجيه، وهي الثقافة، بل سمّت له وزيرها ريمون عريجي. في اللقاء الاخير بينهما في قصر بعبدا الاسبوع الماضي، حمل الرئيس المكلف الى رئيس الجمهورية مسودة تشكيلة حكومية قال ان الوزير علي حسن خليل ونادر الحريري عملا عليها. استمهل عون الاجابة ومناقشتها الى ما بعد عودة وزير الخارجية من سفره.
منها خامساً ان الثنائية المسيحية تصر على رد الاعتبار الى التمثيل المسيحي في السلطة تحت عنوان استعادة العافية المارونية، على نحو لم يكن كذلك في الحقبة السورية، مع ان هذا الفريق تمكن منذ تسوية الدوحة، تبعاً للاعراف التي استحدثتها، من فرض القوة الاكثر تمثيلاً كالتيار الوطني الحر في السلطة الاجرائية عبّرت عنه على التوالي حكومتا السنيورة والحريري عامي 2008 و2009 ثم نيله وحلفاؤه في تكتل التغيير والاصلاح عشرة مقاعد في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 في سابقة لم يسبق لحزب مسيحي في تاريخ الحكومات اللبنانية ان حظي بحصة مماثلة. الواقع ان العقبات التي يجبهها رئيس الجمهورية في تأليف اولى حكومات عهده، هي نفسها التي تسبب بها هو في حكومات السنيورة والحريري وميقاتي وصولاً الى حكومة الرئيس تمام سلام باصراره على تسمية وزراء تكتله وتحديد حقائبه. ذلك ما يفعله الآن حليف الماضي وخصم اليوم نائب زغرتا.
منها سادساً ان الافرقاء المعنيين بالتأليف ضائعون بين الاحتكام تارة الى اتفاق الطائف، وطوراً الى اتفاق الدوحة. يقول رئيس الجمهورية انه مصر على تطبيق اتفاق الطائف على نحو روحية التسوية الوطنية التي ابرمت في المملكة السعودية وهو الذي كان ضده عام 1989 وقاومه ثم التحق به عام 2005، الا انه يطالب بحصة وزارية منحه اياها اتفاق الدوحة. يلاقيه في الموقف نفسه الرئيس المكلف بإصراره على التمسك بصلاحياته في اتفاق الطائف ومنها اختصاصه هو في تأليف الحكومة، في وقت يسلّم الرئيسان على مضض بأن ليس في وسعهما تأليف حكومة بمَن حضر، او تجاهل الشريك السياسي ــــ غير الدستوري حتماً ـــــ في جهود التأليف، وهو الثنائية الشيعية التي يفاوض باسمها رئيس المجلس. ذلك ما عناه الرئيس المكلف عندما فاتح رئيس مجلس النواب في الصعوبات التي يصطدم بها ورفض فرنجيه القبول بحقيبة التربية، من دون ان يطلب تدخله لتذليل هذه العقبة.
قد لا تكمن في هذه وحدها اسباب التعثر، وان بدا فرنجيه في صدارة المشكلة. بدوره الحريري لا يتردد في الظهور بمظهر الحلقة الاضعف بين اللاعبين الآخرين.