باريس | ينتمي المخرج الموريتاني، عبد الرحمن سيساكو (1961) إلى ذلك الصنف النادر من السينمائيين القادمين من خارج المركز الأوروبي، ليستقطبوا الأضواء والحفاوة النقدية والجماهيرية في الغرب، لكن من دون أن يتخلّوا عن هويتهم وخصوصيتاهم «الجنوبية».
بخلاف كثيرين من أقرانه العرب والأفارقة، من «صائدي الجوائز الدولية»، الذين انساقوا نحو صفقات فاوستية مع الاستبلمثت السينمائي المهمين في القارة العجوز، تمسك سيساكو بأصوله وبيئته الصحراوية، متخذاً منهما مرجعية فكرية سعى من خلالها لمساءلة الغرب ووضعه في مواجهة مرآة الذاكرة الاستعمارية التي ما زالت جرحاً غائراً في الضمير الجمعي الأفريقي. مرجعية فكرية غذتها الخلفية اليسارية للفتى الموريتاني، الذي تربى في باماكو، وانتدب الى موسكو، عام 1983، لدراسة الإخراج في «المعهد الفيدرالي للسينما».
منذ عمله الأول «اللعبة» (23 دقيقة – 1989)، الذي كان بمثابة أطروحة تخرجه من المعهد السوفيتي الشهير، خالف سيساكو السائد. لم يقدّم، كما كان دارجاً آنذاك، عملاً يمجد إنجازات الكتلة الشرقية سابقاً، بل حرص على أن تدور أحداث قصته في مرابع صباه في الصحراء الموريتانية. لكن النبرة التقدمية لذلك الشريط، الذي صوّره سيساكو في صحراء تركمنستان، اغتفرت له لدى دعاة «الواقعية الاشتراكية» الذين كانوا مهيمنين على المعهد السوفياتي، الذي كان يولي عناية خاصة للسينمائيين القادمين من العالم الثالث.
ورغم أنّ تخرجه من معهد السينما تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أنّ سيساكو عاد الى موسكو، عام 1993، ليقدم تحية عرفان الى الحاضنة الروسية التي شهدت خطواته السينمائية الأولي، بفيلمه «أكتوبر» (37 د)، الذي صّوره في إحدى ضواحي موسكو الفقيرة. فيلم فتك جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان السينما الأفريقية في ميلانو، وشكّل أول محطة لمخرجه في «مهرجان كان السينمائي»، حيث عُرض ضمن تظاهرة «نظرة ما». ذلك الحضور الأول في «كان» كان مناسبة اكتشفت من خلالها قناة «آرتي»، هذا السينمائي الأفريقي الواعد، فاختارته ضمن مجموعة من السينمائيين من مختلف الجنسيات كلفوا بإنجاز سلسلة أعمال قصيرة احتفاء بالذكرى المئوية الثالثة لوفاة جان دو لافونتين (1621 - 1695).

تأثيرات «الواقعية الإيرانية»
في سينماه تعمقت أكثر
في «باماكو»
هنا أيضاً راهن سيساكو على المغايرة، وقدّم اقتباساً موريتانياً خالصاً لـ «حكايات لافونتين، من خلال فيلم قصير حمل عنوان «الجمل والعصي التي تطفو على سطح الماء»!
بعد ذلك بثلاث سنوات، استعانت «آرتي» مجدداً بسيساكو ضمن سلسلة أفلام حول الألفية الجديدة، بعنوان «العام 2000 بعيون...»، مما أتاح له الفرصة لتقديم عمله الروائي الطويل الأول «الحياة على الأرض» (جائزة أفضل فيلم روائي طويل في «مهرجان السينما الأفريقية» في ميلانو - 1998).
هذا العمل الأول، الذي رصد لحظات المرور الى الألفية الجديدة بعيون أفريقية، حمل السمات الأسلوبية التي ستصنع لاحقاً فرادة وتميز سينما سيساكو، من خلال روائع ثلاثيته الشهيرة («في انتظار السعادة»/ 2002، «باماكو»/ 2006، «تمبكتو»/ 2014)، التي كرسته ضمن كبار صناع السينما عبر العالم.
في تلك الأعمال، سعى سيساكو للسير على خطى المعلم الإيراني الكبير عباس كياروستامي، مستوحياً منه نفسه الشعري ورؤيته الإخراجية القائمة على المزاوجة بين التوثيق والتخييل. «في الحياة على الأرض»، عاد سيساكو إلى مسقط رأس والده، في بلدة «سكولو» في الصحراء المالية، ليصور وقائع الحياة هناك، قبل عامين من حلول الألفية الجديدة، من خلال قصة شاب يعود من المهجر الأوروبي لزيارة والده. تقمص سيساكو دور الابن بنفسه، وأسند دور الأب إلى والده محمد. صوّر حياة القرية المعزولة، كما هي، بعدسة تكاد تكون توثيقية. لكنه طعّم القصة بمشاهد روائية تمثلت في لقاءات عابرة تجمعه بفتاة قادمة من قرية مجاورة يصادفها مرات عدة خلال تنقلاتها على متن دراجتها الهوائية، وتدور بينهما أحاديث شتى حول شؤون الحياة وأحوال العالم واقتراب الألفية الجديدة. أحاديث تشكل خلفية سردية تتنامى من خلالها أحداث بقية مشاهد الفيلم التوثيقية التي ترصد حياة القرية كما هي في الواقع الفعلي.
تأثيرات «الواقعية الإيرانية» في سينما سيساكو تعمقت أكثر في «باماكو» الذي كرسه ضمن كبار صناع الفن السابع، من خلال عرضه في التشكيلة الرسمية لـ «مهرجان كان» (خارج المسابقة). تدور أحداث الفيلم في عمارة تقليدية في العاصمة المالية تتشكل من مجموعة من البيوت العائلية المفتوحة على ساحة داخلية مشتركة. الواقع والخيال يتداخلان هنا على مستويات عدة. داخل البيوت، مجموعة من العائلات الحقيقية التي تعيش حياتها اليومية الفعلية، لكن سيساكو زرع بينها عائلة من الشخوص الروائية: مغنية في بار شعبي وزوجها العاطل عن العمل وابنتهما. وحين تجتمع العائلات الفعلية ليلاً لمشاهدة التلفزيون، يبث لها سيساكو، من دون علمها، على القناة التلفزيونية المحلية، فيلم ويسترن زائفاً بعنوان «موت في تمبكتو»، صوّره وتقمص أدواره بالاشتراك مع أفراد الطاقم الفني لفيلمه. من خلال شريط الويسترن المزيف، تنفتح أعين السكان تدريجاً على الحروب التي تديرها القوى الكبرى بالوكالة، من خلال استدراج أفارقة سود للتحالف مع أجانب بيض لمحاربة إخوتهم الأفارقة. ثم يتداخل الواقع بالخيال على صعيد آخر، حين تنتقل الفرجة من الشاشة الى الساحة الداخلية للعمارة، ليتابع السكان عرضاً مسرحياً في شكل محاكمة رمزية لسياسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. وتشترك في المحاكمة شخصيات معروفة تؤدي أدوارها الفعلية في الحياة، من بينها المحامي الشهير ويليام بوردون، الذي كان آنذاك رئيس الفيدرالية الدولية لمنظمات حقوق الإنسان!
هذه البنية الإخراجية القائمة على اختزال الفوارق والمسافات بين الواقع والخيال بلغت أوج صنعتها في رائعة «تمبكتو» (2014)، التي دخلت التشكيلة الرسمية في «مهرجان كان»، ورُشحت للأوسكار، وحصدت سبع جوائز «سيزار» فرنسية. في هذا العمل، تصدى سيساكو لموضوع بالغ القساوة تمثل في سيطرة المتطرفين الجهاديين على «تمبكتو» للبطش بأهلها وتدمير مخطوطاتها وأضرحتها الإسلامية التي صمدت أمام الغزاة والوافدين على مدى قرون.
رغم قساوة موضوع الفيلم ودموية بعض مشاهده، إلا أنّ سيساكو طرح جانباً النبرة الخطابية المعتادة في الأفلام التي تتصدى لقضايا التطرّف والإرهاب، مستعيضاً عنها بلغة بصرية مينمالية ومبهرة في شاعريتها، نحت من خلالها بورتريهاً حميماً ومؤثراً لحياة سكان تمبكتو القائمة على التسامح والبساطة والتآخي.
في مواجهة بشاعة المشاهد الروائية التي استعاد الفيلم من خلالها الفظائع التي ارتكبت خلال سيطرة المتطرفين على المدينة، أشهر سيساكو سلاح الحياة الواقعية لسكان المدينة، مثمناً قيم التآخي والتعايش بين مختلف مكوناتهم الإثنية من العرب والتوراق والهاوسا. وكان رهانه موفقاً، لأنّ الصورة المبهرة التي رصد من خلالها تعدد وتعايش اللغات واللهجات والعادات الاجتماعية لسكان الصحراء، شكّلت أفضل رد على الرؤى الأحادية والشمولية للمتطرفين.

* ندوة مع مع عبد الرحمن سيساكوبادارة هوفيك حبشيان ـــ 1/12 ــ س: 18:00 ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/204080





«زد» كوستا غافراس: أيقونة السينما الستينية الملتزمة

فيلم كوستا غافراس - الأيقونة يعود الى الصالات، بعد 45 سنة، في نسخة مرممة رقمياً، لينكأ جراحاً ما زالت مفتوحة حول الإيديولوجيات الشمولية واستغلالها لخيانة النخب وتواطؤها. ما زال «زد» (1969)، للمخرج الفرنسي من أصل يوناني، ماثلاً في الأذهان بوصفه الفيلم الوحيد الذي خوّل سينمائياً عربياً، هو الجزائري أحمد راشدي، نيل جائزة أوسكار، ولو بالوكالة! في التقليد الهوليودي، يُمنح أوسكار أفضل فيلم الى المنتج لا إلى المخرج. لذا، كان أحمد راشدي هو الذي اعتلى خشبة الأوسكار، في مساء السابع من نيسان (أبريل) 1970، لاستلام جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية، التي منحت لـ Z، الذي صوره غافراس في الجزائر، بتمويل من شركة السينما الحكومية ONCIC، التي كان راشدي مديرها العام.
قبل أن يخطف الأوسكار، كان «زِد» قد شكّل الحدث الأبرز في «مهرجان كان 1969»، وأحرز جائزتي «لجنة التحكيم» و«أفضل ممثل» (جان لوي ترانتينيان بدور القاضي خريستوس سارتزيتاكيس). وكان بمثابة العمل الأول من ثلاثية أشهر كوستا غافراس، من خلالها، السينما كسلاح ضد التوتاليتاريات بمختلف أنواعها، واستكملها لاحقاً بـ «الاعتراف» (1970) و«حالة حصار» (1972). عام 1963، كانت قد مرت عشرية كاملة على مغادرة غافراس موطنه الأصلي اليونان، حين ضجت البلاد بمقتل النائب اليساري، غريغوريس لامبراكيس، بأيدي زبانية «ديكتاتورية الكولونيلات»، في جريمة حاول القتلة تمويهها في شكل حادث مرور. وإذا بقاضي تحقيق مشاكس، يدعى خريستوس سارتزيتاكيس (سيُصبِح لاحقاً رئيساً للجمهورية من 1985 الى 1990)، يتصدى لفضح الجريمة متحدياً النظام العسكري والجهاز القضائي المتواطئ معه. عام 1967، عادت القضية الى الواجهة من خلال رواية مدوية بعنوان Z (أو «زيتا» باليونانية، اختصار لكلمة «زي»، ومعناها «إنه حي»)، أصدرها في باريس روائي يوناني مغمور يدعى فاسيليس فاسيليكوس (سيُصبِح لاحقاً كاتباً ذَا شأن، من خلال روائع عدة، كـ «حسناء البوسفور»، و«مياه جزيرة كوس»). تلقف غافراس الرواية مقتبساً منها رائعته السينمائية، التي لم تكتف بتصوير جريمة مقتل البرلماني غريغوريس لامبراكيس (تقمص دوره النجم إيف مونتان) فحسب، بل اتخذت من نضالات قاضي التحقيق الذي كشف الجريمة منطلقاً لإدانة الانقلابات العسكرية، وفضح وتفكيك آليات المنظومة القمعية التي تستند إليها الطغمة العسكرية لتكريس حكمها، والتي يشكل خيانة النخب وتواطؤ الأجهزة القضائية أسلحتها الأكثر ضراوة. عرف «زِد» نجاحاً عالمياً جعله أيقونة السينما الستينية الملتزمة ذات النفس اليساري. أمر منح غافراس «حصانة» خولته تحدي الفكر الستاليني - الذي كان مهميناً، آنذاك، في الأوساط اليسارية ـ حتى في الغرب - مقتبساً في «الاعتراف» رواية بيوغرافية لنائب رئيس الوزراء التشيكوفسلوفاكي الشيوعي، آرثر لندن، الذي أدين خلال «محاكمات براغ» الستالينية (1952)، بعدما انتزع منه رفاقه السابقون، تحت التعذيب، اعترافات زائفة بالتجسس لحساب العدو الأميركي. ثم استكمل ثلاثيته المعادية للتوتاليتارية بـ «حالة حصار»، الذي فضح اليد الأميركية في دعم الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية، وقيام خبراء الاستخبارات المركزية، تحت غطاء منظمات خيرية غير حكومية، بإنشاء مختبرات لتدريب أجهزة أمن تلك الدكتاتوريات على فنون القمع والتعذيب، بهدف التصدي للمد اليساري في القارة اللاتينية.
عثمان...

* لقاء مع كوستا غافراس بادارة انطوان خليفة، يليه عرض Z بنسخته المرممة: 2/12 ــ س: 18:00 ــ «متروبوليس»