" من اليوم الاول سنبني في الجنوب حائطا جميلا وعاليا وقويا ولا يُخترق ابدا"دونالد ترامب

ليس من المؤكد حتى الان ما هو الاسوأ من ناحية وقعه على السمع: انتصار ترامب ام رد فعل الليبراليين وبعض اليساريين عليه؟ فيوم الاربعاء الماضي اعلنت حقبة جديدة في الولايات المتحدة اتت لتنهي (وتنقض في الوقت نفسه) ما بدأه ما عدّه الليبراليون "مزحة" اخرى الا وهو رونالد ريغان. ماذا حصل ولماذا انتصر ترامب؟
على الرغم من اعتقاد البعض بانه انتصار للحقد الاعمى وللعنصرية وللجنون على العقلانية والحرية والقيم الاميركية وغيرها من التعليلات الليبرالية، الا ان ما حسم الموقف كان مجموعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي عصفت بالمجتمع الاميركي في الثلاثين سنة الماضية. يأتي في قمة هذه المتغيرات تراجع الصناعة الاميركية نتيجة انتقال رؤوس الاموال الى الخارج، ما خلف مكان الصناعة الاميركية المتقدمة ما عرف بـ "حزام الصدأ" (rust belt)، وهي بالفعل مدن وبلدات ماتت فيها الصناعة، وما كانت تحمله من اجور مرتفعة وامان وظيفي وساعات عمل منتظمة، وتحول عمالها الى الهجرة او الى قطاعات الخدمات التي تتميز بالاجور المنخفضة، وعدم الأمان الوظيفي وساعات العمل المتغيرة. كل هذا اطاح الطبقة المتوسطة، التي كانت لعقود اساس المجتمع الاميركي وثباته. في هذه المدن والبلدات ضاق هؤلاء ذرعا بسياسات الديمقراطيين الوسطية، فذهبوا الى معسكر ترامب، الذي بشعبوية يمينية استطاع ان يعدهم بالعودة الى الايام الجميلة السابقة وجعل اميركا عظيمة، فكانت هذه الولايات من ميشيغان الى ويسكونسن أن حسمت الانتخابات، وفاجأت كلينتون والحزب الديمقراطي؛ فكتبت النيويورك التايمز في اليوم التالي "الطبقة العاملة قالت كلمتها"!
السؤال الآن: من يواجه الفاشية الصاعدة في الولايات المتحدة وأوروبا؟

اما المتغير الثاني، فهو ردّ الفعل الاجتماعي والثقافيّ على تركيز الديمقراطيين والليبراليين في الثلاثين سنة الماضية على التناقضات الاجتماعية المتمثلة بالعرق والجندر وحقوق الخيار الجنسي ومحاربة المدخنين وغيرها، كما على اشاعة خطاب ما عرف بالصراط المستقيم السياسي (political correctness) واهمالهم للصراع الطبقي وحقوق العمال؛ ومشاركتهم في اتباع السياسات النيوليبرالية والتجارة الحرة وعزوف الدولة عن التدخل في الاقتصاد. ظن الليبراليون انهم بهذا التحالف القوس قزحي غير المبني على المصالح الطبقية والممزوج بالسياسات الوسطية وبإعطائهم الانطباع بالمقدرة على الحكم ومدعوما بالتغير الديموغرافي والارهاب الفكري الذي يمارسونه على المستوى الاجتماعي والثقافي، ظنوا انهم منتصرون لا محالة، لكنهم فعليا، اثاروا رد فعل شعبيا جعلهم يخسرون اجزاء واسعة من الطبقة العاملة والمتوسطة وصولا الى تخويفها من الاشتراكية عبر تحريف معانيها في وعي الناس. كمثال على ذلك، في احد المطاعم الاميركية جلس احد مؤيدي ترامب عشية الانتخابات وقال لصحافي النيويورك تايمز "ان الشباب دائما اشتراكيون" كما ان النساء اشتراكيات. ان الرجال البيض هم الذين بنوا هذا البلد... والان اصبحوا اقلية"!
في الوقت نفسه، وعلى المستوى السياسي كان اختيار الحزب الديمقراطي لهيلاري كلينتون بدلا من المرشح الاشتراكي بيرني ساندرز، بدعم من هؤلاء الليبراليين الاجتماعيين، المدماك الاخير في التحول التاريخي للحزب الديمقراطي، من كونه حزبا يعتمد على النقابات العمالية والطبقة الوسطى ويمثل قضاياهما منذ زمن فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات الى حزب وسطي لا يمثل فعليا احدا على المستوى الطبقي. ففقد بذلك في خضم التحولات الطبقية والاقتصادية فرصة التحول الى اليسار ببرنامج اشتراكي وهو البرنامج الوحيد القادر على مواجهة الشعبوية اليمينية لترامب، التي جذبت المتضررين من عقود من الليبرالية الاقتصادية. وهنا كان موقف الليبراليين حاسما في عدم اختيار ساندرز، وبذلك تخلوا عن قضايا العمال والطبقة الوسطى واختاروا سياسة العنصر والجندر والخيار الجنسي في شعبوية معكوسة وانتهازية سياسية في آن واحد، متخلين عما دعا اليه ساندرز من "ثورة سياسية" معتقدين ان التغييرات الديموغرافية كفيلة بايصالهم الى السلطة.
هذا بالامس والسؤال الان: من يواجه الفاشية الصاعدة في الولايات المتحدة واوروبا؟ كما في التاريخ كذلك اليوم: ان الماركسيين هم الوحيدون الذين سيحملون مشعل المشروع التنويري الى ختامه التاريخي، لان الليبراليين والمسيحيين الديمقراطيين والديمقراطيين الاجتماعيين وغيرهم يتباكون على حريتهم المفقودة قبل ان يفقدوها، ويرون انهيار مشروع التنوير امام اعينهم المتمثل بالحرية والمساواة والاخاء (وطبعا الملكية!). في 9 نوفمبر 1989 سقط جدار برلين بسبب هفوة صغيرة وخطأ سياسي كبير. فرح الكثيرون يومها والليبراليون اكثر من المحافظين. اليوم تغير كل هذا. احدهم كتب في 9 نوفمبر 2016 في الفضاء الافتراضي: "مرت 27 عاما بالضبط على انهيار جدار برلين. انا اليوم عمري 27 سنة ولا ادري ان كان يجدر بي الضحك او البكاء". لقد كانت تراجيديا سقوط جدار برلين لانه اطلق العنان لقوى عاصفة محت عقودا من الاستقرار والرفاه في الغرب الراسمالي وانهت عقودا من البناء الاشتراكي والتقدم والمساواة والاخاء في الدول الاشتراكية. الان نرى كيف ان الوهم الذي تملّك العالم في ذلك الوقت يموت امام اعيننا، ويتبين ان هذا الجدار كان فعلا: الجدار ضد الفاشية.