وجود رئيس قوي في بعبدا يفرض انشغال بكركي عن السياسة بهموم أبناء طائفته الكثيرة
وكان البطريرك قد خفض، لأسباب مجهولة، مستوى التمثيل في وفد المطارنة الذي زار بعبدا للتهنئة، فضمّ الوفد إلى جانب مطران بيروت بولس مطر والمطران بولس صياح كلاً من مطران جبيل ميشال عون ومطران البترون منير خيرالله ومطران القاهرة جورج شيحان، في وقت استقبل فيه الرئيس مطران صيدا ودير القمر الياس نصار الذي قال في مقابلة مع موقع "الكلمة أونلاين" إن زيارته أتت بمبادرة شخصية منه باعتباره مؤيداً للعماد عون وخطه السياسي، مستغرباً أن يرسل البطريرك وفداً لتهنئة الرئيس الجديد بدل أن يذهب بنفسه. والواضح، من جهة أخرى، أن مباحثات الراعي مع ضيوفه الأوروبيين تشتت ذهنه وتشغله عن متابعة تفاصيل تشكيل الحكومة، فهو يتحدث عن وزراء كفوئين وتكنوقراط، فيما الجميع يعلم أن أمر التكنوقراط لم يبحث البتة، وهو يتنافى مع مبدأ اختيار رئيس جمهورية وحكومة ومجلس نواب حزبيين، أما الكفاءة فيمكن الحديث عنها من دون حرج في ظل الأسماء الوزارية التقليدية المتداولة. ولا شك في أن البطريرك معذور في بعض طروحاته، فهو التقى قبل بضعة أيام النائب سامي الجميّل، وبدأ من بعدها المطالبة بحكومة "جامعة لا إلغائية" تحقق "المصالحة الوطنية الكاملة والشاملة" التي يهددها، كما يبدو، استبعاد الكتائب من الحكومة.
الأهم من سرد الوقائع السابقة هو سبب إحجام البطريرك عن مواكبة الرأي العام في احتفاليته بانتخاب الرئيس الجديد، خصوصاً أن عون، وقبيل انتقاله إلى بعبدا، ذهب إلى بكركي للإيحاء الشكليّ أقله بأنه وقف على خاطر سيّد الصرح ويخرج من عنده رئيساً. وهنا تتعدد الآراء: بعض "الإكليروسيين" يقولون إن الراعي وضع عينه منذ البداية على الزعامة المارونية لا البطريركية، وإنعاش الزعامة العونية بهذا الشكل اليوم يحبطه قليلاً، علماً بأن متابعة جدول مواعيد البطريرك تبين وجود زائر واحد أو زائرين فقط يومياً، وبضعة مصلين يوم الأحد، فيما بات الاستقبال الشعبي للبطريرك بارداً جداً لأسباب مجهولة. بعض آخر من السياسيين هذه المرة يقول إن الراعي كان يريد شخصية أخرى مثل النائب سليمان فرنجية يحفظ وجود البيوتات السياسية التي يحبها الراعي ويحبّذها على الأحزاب. وهناك دائماً وجهة نظر تبريرية تنهل من العبارات التقليدية ما هبّ ودبّ من أعذار. بمعزل عن هذا كله، لا شك في أن انتخاب عون رئيساً فتح صفحات جديدة على مستويات كثيرة، إحداها في الصرح البطريركي. فخلال ربع قرن، كانت بكركي تحاول ملء الفراغ في رأس الهرم، أو أقله إسناد الرئيس. وبحكم الأوضاع السياسية، كان يمكن التماس الأعذار لعدم قيام الكنيسة بواجباتها الاجتماعية والاقتصادية الكثيرة. فالكنيسة مؤسسة دينية، لكن البابوية والنظام البطريركي جعلاها منذ البداية مؤسسة اجتماعية تربوية استشفائية اقتصادية متكاملة، من واجباتها تأمين التضامن الاجتماعي وتوفير التعليم والاستشفاء والسكن، وحتى العمل، لجميع أبنائها. إلا أن الكنيسة اللبنانية قررت منذ سنوات أن تشتغل في السياسة بدل هذا كله. وحين كان يرتفع صوت ناقد لانشغالها بالسياسة عن هموم الناس كان يستعر التحريض المذهبي والتشكيك في نيات المطالبين بتخفيض الأقساط المدرسية والجامعية وفاتورة الاستشفاء وغيرها. أما اليوم، فهناك رئيس قوي في بعبدا في يده كل مفاتيح الحل والربط، ويفترض أن يكون هناك بطريرك قوي في بكركي ينشغل عن السياسة بهموم أبناء طائفته الكثيرة. ولا بد، بحسب أحد النواب العونيين، أن يتواكب الإصلاح أو التغيير الإداري بإصلاح وتغيير كنسي أيضاً ليشعر المواطنون بالفرق. ولا شك في هذا السياق أن المشهد السياسي يوحي باستنفار عدة قوى لإحداث خرق ما في المشهد السياسي يعزز التفاؤل الشعبي بالعهد الجديد، فيما المشهد الكنسي جامد بالكامل، وهناك من يشعر بأن سلب الدور السياسي منه هو نهاية العالم بدل أن يكون مناسبة للالتفات إلى ملفاته الرئيسية الأخرى لتوفير بعض التفاؤل الشعبي هنا أيضاً.