مرّ على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً أكثر من أسبوعين. لكن لم يتسنّ للبطريرك الماروني بشارة الراعي أن يزور قصر بعبدا بعد، فهو مشغول جداً هذه الأيام، ومواعيده ضاغطة. ففي خبر وزّعه الصرح البطريركيّ قبل أيام، جاء فيه أن البطريرك بحث مع ضيفه "مواضيع هامة وجوهرية لا سيما تلك المتعلقة بالحكومة والوضع بعد الانتخابات الرئاسية ونتائج الحرب الدائرة في سوريا". لكن من هو هذا الضيف الذي شغل البطريرك عن طلب موعد في بعبدا؟ إنه سفير السويد في لبنان وسوريا بيتر سيمنيبي الذي زار بكركي في سياق زيارة بروتوكولية تعارفية. وفي اليوم نفسه، بحث الراعي "مواضيع هامة وجوهرية" مع كل من الوزير السابق إبراهيم الضاهر، ووفد من مسنّي جمعية "مائدة المحبة". الاطلاع على صفحات الأجندة البطريركية يبيّن غزارة المواعيد الاستثنائية؛ فالبطريرك استقبل السبت الماضي نائبة فرنسية، ويوم الجمعة الذي سبقه ممثلة مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين ميراي جيرار، ويوم الخميس السفير السويدي السابق ذكره، ويوم الأربعاء ارتاح البطريرك بعد ضغط الثلاثاء المتمثل في زيارته لمعهد الرسل في جونية، علماً بأن أعمال السينودس البطريركي بدأت أمس ويفترض أن تستمر يومين، يسافر بعدها (الخميس) إلى خارج لبنان. وفي حال عدم مرور البطريرك ببعبدا في طريقه إلى المطار، كما سبق أن فعل حين مرّ برئيس مجلس النواب نبيه بري، فهذا يعني أنه سيسافر قبل تهنئة الرئيس الجديد. ولم يكشف بعد من سيرسل رئيس الجمهورية إلى صالون الشرف لتوديع البطريرك بالنيابة عنه، علماً بأن مصادر عونية ترى أن الأداء البطريركي يفترض أن يدفع الجنرال إلى تكليف أحد الموظفين في المطار بتمثيله. لكن مصادر أخرى معنية بتنفيس الاحتقان، في حال وجوده بين بكركي وبعبدا، تؤكد أن الرئيس الجديد لا يمكن أن يقع في فخاخ مماثلة، وهو سيذهب في مساعيه الاستيعابية إلى حدّ زيارة البطريرك بنفسه لشكره على صلواته الكثيرة من أجل انتخاب رئيس، والطلب منه مواصلة الصلاة من أجل تشكيل الحكومة وإراحة البلد.
وجود رئيس قوي في بعبدا يفرض انشغال بكركي عن السياسة بهموم أبناء طائفته الكثيرة

وكان البطريرك قد خفض، لأسباب مجهولة، مستوى التمثيل في وفد المطارنة الذي زار بعبدا للتهنئة، فضمّ الوفد إلى جانب مطران بيروت بولس مطر والمطران بولس صياح كلاً من مطران جبيل ميشال عون ومطران البترون منير خيرالله ومطران القاهرة جورج شيحان، في وقت استقبل فيه الرئيس مطران صيدا ودير القمر الياس نصار الذي قال في مقابلة مع موقع "الكلمة أونلاين" إن زيارته أتت بمبادرة شخصية منه باعتباره مؤيداً للعماد عون وخطه السياسي، مستغرباً أن يرسل البطريرك وفداً لتهنئة الرئيس الجديد بدل أن يذهب بنفسه. والواضح، من جهة أخرى، أن مباحثات الراعي مع ضيوفه الأوروبيين تشتت ذهنه وتشغله عن متابعة تفاصيل تشكيل الحكومة، فهو يتحدث عن وزراء كفوئين وتكنوقراط، فيما الجميع يعلم أن أمر التكنوقراط لم يبحث البتة، وهو يتنافى مع مبدأ اختيار رئيس جمهورية وحكومة ومجلس نواب حزبيين، أما الكفاءة فيمكن الحديث عنها من دون حرج في ظل الأسماء الوزارية التقليدية المتداولة. ولا شك في أن البطريرك معذور في بعض طروحاته، فهو التقى قبل بضعة أيام النائب سامي الجميّل، وبدأ من بعدها المطالبة بحكومة "جامعة لا إلغائية" تحقق "المصالحة الوطنية الكاملة والشاملة" التي يهددها، كما يبدو، استبعاد الكتائب من الحكومة.
الأهم من سرد الوقائع السابقة هو سبب إحجام البطريرك عن مواكبة الرأي العام في احتفاليته بانتخاب الرئيس الجديد، خصوصاً أن عون، وقبيل انتقاله إلى بعبدا، ذهب إلى بكركي للإيحاء الشكليّ أقله بأنه وقف على خاطر سيّد الصرح ويخرج من عنده رئيساً. وهنا تتعدد الآراء: بعض "الإكليروسيين" يقولون إن الراعي وضع عينه منذ البداية على الزعامة المارونية لا البطريركية، وإنعاش الزعامة العونية بهذا الشكل اليوم يحبطه قليلاً، علماً بأن متابعة جدول مواعيد البطريرك تبين وجود زائر واحد أو زائرين فقط يومياً، وبضعة مصلين يوم الأحد، فيما بات الاستقبال الشعبي للبطريرك بارداً جداً لأسباب مجهولة. بعض آخر من السياسيين هذه المرة يقول إن الراعي كان يريد شخصية أخرى مثل النائب سليمان فرنجية يحفظ وجود البيوتات السياسية التي يحبها الراعي ويحبّذها على الأحزاب. وهناك دائماً وجهة نظر تبريرية تنهل من العبارات التقليدية ما هبّ ودبّ من أعذار. بمعزل عن هذا كله، لا شك في أن انتخاب عون رئيساً فتح صفحات جديدة على مستويات كثيرة، إحداها في الصرح البطريركي. فخلال ربع قرن، كانت بكركي تحاول ملء الفراغ في رأس الهرم، أو أقله إسناد الرئيس. وبحكم الأوضاع السياسية، كان يمكن التماس الأعذار لعدم قيام الكنيسة بواجباتها الاجتماعية والاقتصادية الكثيرة. فالكنيسة مؤسسة دينية، لكن البابوية والنظام البطريركي جعلاها منذ البداية مؤسسة اجتماعية تربوية استشفائية اقتصادية متكاملة، من واجباتها تأمين التضامن الاجتماعي وتوفير التعليم والاستشفاء والسكن، وحتى العمل، لجميع أبنائها. إلا أن الكنيسة اللبنانية قررت منذ سنوات أن تشتغل في السياسة بدل هذا كله. وحين كان يرتفع صوت ناقد لانشغالها بالسياسة عن هموم الناس كان يستعر التحريض المذهبي والتشكيك في نيات المطالبين بتخفيض الأقساط المدرسية والجامعية وفاتورة الاستشفاء وغيرها. أما اليوم، فهناك رئيس قوي في بعبدا في يده كل مفاتيح الحل والربط، ويفترض أن يكون هناك بطريرك قوي في بكركي ينشغل عن السياسة بهموم أبناء طائفته الكثيرة. ولا بد، بحسب أحد النواب العونيين، أن يتواكب الإصلاح أو التغيير الإداري بإصلاح وتغيير كنسي أيضاً ليشعر المواطنون بالفرق. ولا شك في هذا السياق أن المشهد السياسي يوحي باستنفار عدة قوى لإحداث خرق ما في المشهد السياسي يعزز التفاؤل الشعبي بالعهد الجديد، فيما المشهد الكنسي جامد بالكامل، وهناك من يشعر بأن سلب الدور السياسي منه هو نهاية العالم بدل أن يكون مناسبة للالتفات إلى ملفاته الرئيسية الأخرى لتوفير بعض التفاؤل الشعبي هنا أيضاً.