«بيت» تراثي في الطابق الأول، وغرف كثيرة ملأى بالحروف والكتابة والورق. بعضها يتدلى من «مشرَّبية» شرقية في السقف كالمطر، وبعضها يطير إلى الأعلى سابحاً في فلك المكان بحرية مطلقة، تماماً كالحروف التي يخطها سمير الصايغ (1945). أوراق يابانية شفافة تشجع عناق الحروف عبر الصفحات المتقابلة، وأخرى معروضة تحت علبة زجاجية على طاولة مربعة بالحجم نفسه كالمخطوطات القديمة، أو الأثر المقدَّس. ثمَّ هناك غرفة مع نصوص صوفية من مواقف النفري إلى الشيخ الأكبر ابن عربي ثم الجيلي، ملصقة على الحائط مكتوبة بقلم رصاص، بخط يد سمير الصايغ، وكتب... كتب فنيَّة تجمع كنوز الحروف هديةً لمقتنٍ متبارِك، أو «سالك» أو عاشق، أو معشوق... هي ثمار صداقة وتعاون عتيق/ معتَّق بين سمير الصايغ، وPlan B (للشريكين كارما طعمة وطوني صفير). يبدأ طوني صفير شهادته لـ «الأخبار» عن تجربة التعاون مع سمير الصايغ، قائلاً: «لقد كان سياق العملية بذاتها هو الأساس والجوهري بالنسبة إلينا لا الغاية (المنشورات الفنية)، فإذا بدأنا مع هدف نهائي هو الغاية بذاتها، يصبح الطريق أو مسار العملية مجرد ممرٍّ صوب الهدف. لكن عندما نبدأ بإرادة أو رغبة الاكتشاف على الطريق، فهنا تصبح الأمور هامة ومثمرة بشكل مختلف. مع سمير، وهو بامتياز من الأشخاص المهتمين بالطريق لا الغاية، عدا عن نصوصه وأفكاره، كان المسار غنى مطلقاً بالنسبة إلينا».
طريق غني أثمر في مساره أربعة كتب فنية محدودة الإصدار (25 نسخة فقط) أطلِقت أخيراً في عرض فنيّ، ولم يكن أيٌّ منها معدّاً للنشر في الأصل. بل كانت أرشيفاً شخصياً في محترف سمير الصايغ، فتحه استثنائياً للـ «غرافيست» الطليعية كارما طعمة لتغوص فيه، وتختار أصفى درره، فتكون هي «الصايغ» لحروف سمير.
النظرة الصوفية إلى الإنسان والعالم والدين، هي نظرة متحررة متقدمة نحتاجها اليوم (س. ص)

«أوراق بقياسات مختلفة تستحضر جملاً وعبارات للنفري، وابن عربي والجيلي، أعطاني إياها سمير حيث كل جزء كان موضوعاً في كرتونة. لم يكن سمير مقتنعاً بإمكانية جعل كل هذه الأوراق كتاباً واحداً متناسقاً. الصعوبات التقنية كانت كبيرة وكثيرة، من اختلاف الورق وألوانه وأنواعه والأحجام، ثم أشكال الخط وأنواع الأحبار أو ألوانها. لكنني كنت أرى ذلك ممكناً، فأخذت الأوراق وبدأت بالتركيب. رحت أعمل وأريه النتائج تدريجاً لأقول له إنّ وضعها في كتاب موحد ممكن» هكذا تشرح كارما طعمة لـ «الأخبار» كيف بدأت بناء الكتاب الفنيّ (محدود الإصدار) «شطح الكلمات ومشق الحروف». وتضيف أنّها عملت لأكثر من سبعة أشهر، لتحافظ على المسار الحقيقي لتكوُّن الكتاب الفني هذا. أرادت أن يأخذ الكتاب أكثر ما يمكنه من عناصر الحقيقة والواقع والأحداث التي أسهمت في تكوينه، فحافظت على كل تفاصيل الطريق/ المسار بدءاً من الورق الشفاف الفاصل أو الجامع، وهو في الواقع يرمز إلى هذه الكراتين المطوية/ الملفات التي كانت تحوي قصاصات الورق. كل فصل مصدره كتاب، وكلها كانت في قلب تلك الكراتين. طبعاً «بتصرُّف»، فالكراتين كانت أكبر من الأوراق، وكارما عكست المقاييس لتخلق تناسقاً وتتابعاً بين الفصول، وفي الوقت عينه لتحافظ على فكرة الملف الحاوي، وعلى أصل المسار مع تحوير بسيط جداً لضرورة التصميم. ثم اختارت الغلاف من الكرتون السميك مع طباعة حريرية تذكّر بالشكل التجريدي الذي كان على أجزاء الكرتونة الأساسية. لم تستسلم كارما للصعوبات التقنية، بل طوعتها لتحافظ على خط اليد كما هو. رفضت أن تطبع المقدمة، بل أصرت على سمير أن يكتبها بخط يده ضمن معايير الصفحات المتاحة وتركتها كما كتبها الصايغ بقلم الرصاص من دون تعديل على الإطلاق. هكذا، حافظت على صدق المسار/ الطريق بحيث يكون كل شيء مصنوعاً بحرية الصناعة اليدوية رغم اضطرارها بسبب ذلك لإضافة نوع ورق جديد على المعادلة.
تشرح كارما لنا: «لقد كان بناء هذا الكتاب صادقاً إلى درجة أنّ كل تفصيل فيه كان مأخوذاً فعلاً من الحقيقة. ولم يكن بإمكاني أن أفعل غير ذلك. للحظات خفت، لأن الكتاب أصبح معقداً جداً، فيه خمسة أنواع ورق وطباعة حريرية وجزء مقصوص في الغلاف وخياطة يدوية! مسار طويل فعلاً. لكن سمير كان مسروراً بالنتيجة وهذا الأهم. لأننا استطعنا أن نحافظ على العفوية التي يبحث عنها ويحبها ولا يمكن أن يجدها في مكان آخر».
إذاً هي تقنيات متعددة أغلبها يدوي استخدمتها كارما طعمة للحصول على هذه النتيجة الفنية. ليست هذه الكتب عادية مطبوعة بشكل آلي على ماكينات طباعة بشكل أوتوماتيكي، وليس الموضوعُ موضوعَ إبداع في التصميم فحسب، إنما هو نسق آخر من المنشورات ذات الحرفية العالية اسمه «الكتب الفنية».
«أحببت أن أتعاون مع Plan B (كارما وطوني) لأنهم يصيغون إنتاجاً فنياً، سواء لناحية الملصقات أو الكتب فنية والدفاتر وغيرها. هم يبحثون في كل تفاصيل الموضوع من الورق إلى الحبر والخيط مروراً بالغلاف والتجليد، أي كل شيء في عالم «النشر الفني». نشرٌ فيه عودة إلى الحرفية وبعيد عن التقنيات الحديثة القوية في الطباعة والتصوير. وهذا ما أحبه كثيراً، وأمارسه بنفسي في محترفي. أنا أحب أن أكتب على الأوراق الصغيرة، على الدفاتر، ولدي الكثير من الأعمال الصغيرة جداً، خاصة أنني في فترة ما توجهت إلى الأعمال الكبيرة، فشعرت بحنين بعدها إلى الأعمال التي يمكن أن أسميها «حميمية». يعني أن يستطيع أحدنا أن يتفرّج على الخط أو على عمل في كتاب، في دفتر، في كتيِّب، بين أوراق، أن يقرّبه إليه. أن يحمله بين يديه. أن يقرَّبه من عينيه كأنه يقرأ كتاب شعر أو كتاب صلاة!». هكذا يصف سمير الصايغ على طريقته «الكتاب الفني»، مضيفاً: «لم أفكر يوماً أن تجمع هذه المختارات في كتاب. اهتمت كارما بالموضوع على طريقتها، بشكل حافظ على الجزء اليدوي الحرفي، فالكتب الفنية هذه فيها صناعة يدوية من حيث الخياطة، والتجليد، والطباعة، وقسم منها مطبوع طباعة حريرية. ثمَّ هذا الكتاب هو الوحيد الذي يحوي نصاً واضحاً، لكنه مختارات. أقوال بسيطة صغيرة لم أكن أخطط لها، بل كانت مساراً حراً. بعضها أنجز بقلم الرصاص، أو بريشة رفيعة جداً، بتلوين أو على الطريقة الصينية عمودياً مثلاً. والواقع أنني كنت أرى كتب المتصوفين، فأنتقي منها بعض المختارات وأجلس لكتابتها. فأزيد من معرفتي بهم، أحب ذلك. بهذه الطريقة أحفظهم أكثر، أتأملهم أكثر! جمالياً، أفرح بهم!».
هذا تماماً ما تؤكده المقدمة المكتوبة بخط يده: «لم يكن القصد من اختيار هذه الأقوال وكتابتها أو تخطيطها، أن تنضمَّ إلى كتابٍ أو ملف أو ما يشبه المخطوطة. ذلك أنّ الاختيار لم يكن يتبع منهجاً واضحاً ولا توجهاً للوصول إلى إضاءة جديدة أو فهم أعمق أو موقفٍ متميِّز من هؤلاء الصوفيين الكبار ومن مؤلفاتهم. بل كان التوقُّف عند هذه الأقوال من باب الإعجاب والانجذاب والاندهاش والحب». يشرح الصايغ لـ «الأخبار»: «الخط فن سامٍ ذو روحانية عالية، أقرب ما يكون إلى التصوف. النظرة الصوفية الى الإنسان والعالم والدين، هي نظرة متحررة متقدمة. وهي أقرب شيء للفن، خاصة في وقتنا الحالي المليء بالصراعات، هي تعطينا دافعاً لرؤية المستقبل. هي تنظر إلى الإنسان نظرة توحده، وتوحد الدين، وتوحد العالم. وهذا موجود أيضاً في الحركات الفنية الكبيرة. لقد اقتربنا من ذلك أيضاً عندما اعتبرنا أن التراث الفني العالمي هو تراث إنساني، وكل إنسان له حق فيه، وعندما قلنا إنّه إذا دخل الإنسان إلى عمق ذاته، يلتقي بالآخر، وعندما قلنا إنّه سواء في فن الشعر أو الفلسفة أوالعمارة، التصوير، التلوين، النحت، الموسيقى، فالفنان واحد في النهاية».
أهمية هذا الفنان أنّه حرّر الخطّ العربي من ثقل السياسة والدين (صالح بركات)

يقول الصايغ بفرح «سواء كان العمل كبيراً أم صغيراً، كنت أبحث باستمرار عن إمكانيات أو طريق يذهب إليها الخط. عن أماكن يتجلى فيها، يظهر فيها، يأخذها، وتكوّن مجاله. سعيت إلى تحرير الخط أولاً من اللغة، من الجمل الكبيرة، فصرت آخذ كلمة واحدة. لاحقاً، أخذت حرفاً واحداً، والآن في هذه الكتب الصغيرة، أصبحت آخذ زيحاً من الحرف، شقفة من الحرف، شكلاً، أو حرفاً جديداً، أو شيئاً يتكوَّن، كأنَّ هذه القصبة، هذه الريشة، هذا القلم الذي نكتب به سكر إلى درجة أنه صار يخلط بين الحروف والأسطر.. وصار يغنّي بدل أن يقرأ» .
من الكتابة وخط يد سمير الصايغ في «شطح الكلمات ومشق الحروف» أولاً حيث النصوص الصوفية التي يستوحي منها وتشكّل عالمه الأهم، إلى الحروف التي اشتهر بها في معرضه الأخير في «غاليري أجيال»، وصولاً إلى كتاب «ما بعد» حيث انتقل بالحرف إلى أفق كتابة نص كامل تجريدي. تسر كارما لـ «الأخبار» بأن الأقسام الثلاثة هذه كانت مقصودة للانتقال بالزوار بين مختلف مراحل سمير الصايغ الحروفية، والذهاب معهم تدريجاً من النص المقروء في «شطح الكلمات ومشق الحروف» إلى التجريد في الكتب الفنية الثلاثة التي صدرت أيضاً، من بينها «ما بعد»: هذا الكتاب الطويل أشبه بالكتب اليابانية، مع مقدمة بخط يد سمير حيث يعلن عن «اللحظات الضيقة التي يمر فيها انفصال اللغة عن معانيها، انفصال الشكل عن المضمون، انفصال الجسد عن الروح، الليل عن النهار، العاشق عن المعشوق. إنها اللحظات الضيقة التي ينفصل فيها الزمن عن المكان، الزمن عن الوقت، المكان عن الحدّ إنها لحظة المطلق لحظة العدم». إنّها بيانه الانتقالي إلى الحرية، حرية الحرف من كل قيد أو شرط. تتوالى الصفحات المغرية للقراءة مطْلقة اليدين من قيد المعنى. صفحات حرة تحافظ في ذهن المتلقي على جذرها الحروفي كالغيم والمطر، في علاقة جوهرية متينة قائمة على الحرية.
يعلّق الصايغ: «نعم ذهبت إلى تجربة أبعد، أن أتحرر من اللغة نهائياً. هذا الفن (فن الخط) هو بذاته في صراع من الأساس بينه وبين الكلمة، بينه وبين اللغة. لأنه أول ما تجسد، تجسد على أساس أنه هو يصنع الكلمات، يخططها، ويعطي شكلاً للحروف وللكلمات. وطبعاً كان الخط العربي فناً كبيراً لأنه اهتم بإعطاء شكل أساسي لكلمة الوحي من دون أن يكون قصده تعميم الكتاب أي نسخ الكتاب أو تعميمه للقراءة، بل كان القصد هو الاحتفال، كان ينتج عملاً فنياً كبيراً. في الفترات الأخيرة، تراجع الخط عن كونه فناً، فصار حرفة من الحرف. أقرب إلى تمارين. وأصبح الخطاط محكوماً بكتابة الحروف بطول معين وسماكة معينة. لذا، باعتقادي يجب أن نتحرر من هذه القيود، ونخفف من وظيفة الفن النفعية التي غالباً ما لها علاقة بوظيفته اللغوية، أي إيصال المعنى. ثانياً أن نخفف من علاقة الخط العربي بالدين. صحيح هو فن تكتب فيه الآيات، لكنه ليس فنّاً مقدساً على الإطلاق ولم يخدم ولا يخدم السلطة الدينية، وإنما يخدم الدين من حيث انتمائه للفن. وقد استطاع أن يستوحي من رؤية الدين للكون وللإنسان وهذا طبعاً شيء عظيم».
لكن غياب المعنى وحضور المعاني أكثر ما يتجلى في «الدفتر الأزرق» (كتاب فني بإصدار محدود) بورقه الياباني الشفاف وتذهيباته المشغولة باليد مجاورة حروف سمير الحرة، و«الدفتر البني» (كتاب فني بإصدار محدود) والورق الياباني الشفاف نفسه، لكن مع هدف إضافي أراده سمير وكارما، وهو تحرير الصفحة من اتجاهاتها، فهنا كل "الميلات" وجه الصفحة، والحرف ينتقل عبر هذه الشفافية المقصودة من ميل إلى ميل، هنا لا حدود ولا حواجز، هنا الحرف يحرِّر بتحريره الصفحة.
تقول كارما طعمة: «هذه الأعمال هي أعمال حميمية أكثر من أي شيء آخر. لا مسافة فاصلة بين العمل والمشاهد، فهي أعمال شخصية جداً، لأنّها بالأساس مسحوبة من الأدراج، ولم تكن مجهزة مسبقاً لتكون تحت الضوء أو مؤلفة لتأخذ شكلاً نهائياً متوقعاً. هي مجرد عمل عفوي، تمرين يمارسه سمير الصايغ. ليس هناك فكرة واحدة واضحة. وإنما هي أعمال فطرية، عفوية، حرة. ولهذا السبب يمكن أن يكون لدى البعض انطباع أنها خام. وهي فعلاً أعمال نقية جداً. وهذا ما حاولنا أن نظهره». يعلّق الصايغ أخيراً: «صحيح أنَّ هذا الفن (فن الخط) له علاقة بالكلمات والحروف. لكن هذه العلاقة لا يجب أن تثبت على حالة واحدة، لأنه حين تثبت على أسلوب أو على شكل واحد، يموت الاثنان، يموت الطرفان. هي علاقة حيوية، يجب أن تبقى متحركة وهي في الحقيقة كالعاشق والمعشوق، كالحب! لا يمكن لطرف أن يسيطر على الثاني نهائياً. ولا يستطيع أن ينفصل عنه نهائياً، كما لا يمكن أن يتحد به نهائياً. هما أشبه بقطبين بهيئة واحدة، هما اثنان في تجلٍّ واحد. منذ زمن والتوازن هذا قائم بين الخط واللغة، أكثر من ألف سنة يتوازنان ويقدمان التنازلات بينهما. في وقت الحروب حيث لا حوار وبالتالي لا لغة، وفي ظل هذا التخلف والتراجع، في ظل هذا القتل والدمار، أصبح من الأفضل ربما أن يذهب الخط إلى شفافية أكثر كي لا يقع مرة جديدة في هذه العلاقة التي جمدت».




«سمير الفاتح»

لقاء حواري جمع قبل أيام روز عيسى، وسمير الصايغ، وصالح بركات في مناسبة إطلاق كتاب «رموز من زماننا: من الكاليغرافيا إلى الكاليغرافيتي» (منشورات روز عيسى) في «غاليري صالح بركات» في كليمنصو. في هذا اللقاء، قدمت روز عيسى (صاحبة غاليري «روز عيسى» في لندن) الكتاب الذي يؤرخ لستة عقود من الفن الحروفي، موجزة أنّه مقسَّم الى ثلاثة أجيال. أولاً، هناك جيل المحدّثين أمثال سمير الصايغ، وشاكر حسن آل سعيد، الذين سجلوا نمطاً جديداً ومفهوماً جمالياً جديداً. وهناك الجيل الثاني من الفنانين الناشئين في أوروبا ممن أنجزوا استكشافات أو تجارب أثرت أو لوَّنت هويتهم. ثم هناك الجيل الثالث «الغجري» المتنقل الذي يعمل ويسافر الى كل مكان، حيث نرى الخطوط الاسيوية، والاوروبية، والمتوسطية والعربية في أعماله. جيل لا تعنيه الجماليات ولكنه يستعمل الحرف.
قرابة 50 فناناً في هذا الكتاب، وجهت إليهم عيسى أسئلة مشتركة عن علاقتهم بالفن وبالحروفية ومصادر إلهامهم والامل المستقبلي لهذا التيار، مشيرة إلى أهمية سمير الصايغ كأحد أربعة حروفيين فقط في الكتاب ممن تصرفوا بمورفولوجيا الحرف (علم تشكُّل الحرف) بعيداً عن أن يكون خطاطاً تقليدياً. بعدها، قدّم صالح بركات (صاحب غاليري «أجيال» أيضاً) مداخلته التي أوجز فيها تعرفه إلى المدرسة الحروفية بحكم عمله، منوّهاً بأهمية لقائه بسمير الصايغ في هذا الإطار. وأشار إلى نقطتين: الأولى أنّ الفنانين استعملوا الخط العربي إما لأسباب دينية، كي يعطوا صبغة اسلامية لفنهم، أو استعملوه لاسباب سياسية كي يعطوا صبغة عربية لأعمالهم. وهنا برأي بركات تكمن أهمية سمير الصايغ الذي أخذ هذه الجمالية في الخط العربي، وأراد تحريرها من هذين الثقلين أي ثقل السياسة والثقل الديني، ويحولها إلى شكل آخر بحيث أن أي ناظر سيتأملها حكماً سواء فهم اللغة العربية أم لم فهمها. وبالتالي يخلد الخط العربي من دون العودة إلى المعنى المفهوم. يضيف بركات: «لقد فتح سمير الصايغ الباب للكثير من الفنانين كي يستعملوا جمالية الخط العربي بعيداً عن ضيق مساحة الدين أو العروبة. وفي يوم ما، سوف نذكره كـ «سمير الفاتح»».
صفة لا شك في أنّه يستحقها لكنّ المعلّم اللبناني قابلها برد متواضع صوفي الهوى، قائلاً: «كبيرة جداً هذه الصفة. وهنا أقول إنّ عمق فن الخط العربي هو أنّ لا وجود خلفه لـ «أنا» الفنان، لا ذات فنية. 300 سنة من الخط الكوفي، ولم يكن هناك إمضاء واحد!».
ثم تابع الصايغ متحدثاً عن تاريخ الفن الحروفي، مفصلاً اكتشافه الشخصي على هذا الصعيد: «هذا الفن عنده تأثير كبير على العين. نحبّه، ولا نحبّه ليس بسبب ما يقوله أو معنى الكلمة، بل بسبب الانجذاب إلى الشكل، وهذه الصفة الأساسية الملتصقة بالطبيعة. فإذا كان هناك شجرة، نابتة بشكل صحيح وأغصانها قوية وثمرها ناضجة، ننجذب لها ونحبها. والخط هكذا أيضاً. عندما يكون الخط قوياً بشكله، نقول عنه جميلاً، ليس لأنه كتب كلمة أو معنى، أو أي عبارة. هذا ما يعيدنا إلى الانطلاقة الأولى لهذا الفن الرفيع السامي، ويمكن أن يربطنا بحضارات ثانية كبيرة كالحضارات في الصين أو اليابان وغيرها، بشكل خاص عندما يتجرد من قيد المعنى. لا يجب اليوم أن نكتب بالخط كلمات ونجعله وظيفة منفعية. يجب أن يكون له معناه بحد ذاته!». ساعة من الحوار في أصل الحرف وتكوُّنه أو تكوينه ليقول سمير الصايغ في الختام جواباً على سؤال روز عيسى عن منشأ الحروفية: «إنّ الحروفية هي من أتت إلي».