"إن الأتمتة تواجه عالم السلع بتناقض في حاجة لحل بطريقة ما"
غي ديبورد


إن أي شخص عاش وناضل في الفترة التي أعقبت نهاية الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وغيرها من الأنظمة الاشتراكية المحققة، يدرك مدى الصعوبات التي فرضت نفسها على الجبهات النظرية والسياسية؛ بالنسبة إلى الأحزاب الشيوعية الحاكمة، وأيضاً على الجبهة الاقتصادية. بدت هذه الصعوبات في ذلك الوقت وكأنها أمر لا يمكن التغلب عليه. لكننا اليوم نعيش في عالم مختلف حيث تتفاقم أزمة الرأسمالية بدءاً من عام 2008 وهي الأزمة الأشد منذ الكساد العظيم في عام 1929. وهذه الأزمة أعادت طرح السؤال الذي كان لفترة طويلة طي النسيان "هل هناك مستقبل للرأسمالية؟".
بالنسبة إلى الكثيرين، بدت هذه الأزمة مألوفة ومتوقعة. لكن توقع الأزمات في كل وقت هو ليس تنبؤاً على الإطلاق، وهو شرك يقع به بعض الماركسيين الذين يرون الأزمة الرأسمالية دائماً واقعة لا محالة. ولكن فقط عبر فهم طبيعة هذه الأزمة، يمكننا أن نستشفّ الفرص التي توفرها.
إن الأزمة هذه المرة حقيقية ليس فقط بوصفها مرحلة من مراحل دورة الأعمال أو مظهراً من مظاهر ميل معدل الربح نحو الانخفاض، ولكن أيضاً في كونها أزمة طويلة الأمد للرأسمالية. أولاً، فهي تتجلى في استنفاد "حل الكينزية"، إذ إن تزايد الديون العامة وانفلاش ميزانيات البنوك المركزية وبلوغ الفوائد حاجز معدل الصفر تقض مضاجع صناع السياسة في الدول الرأسمالية المتقدمة، وتشل أدوات "إنقاذ الرأسمالية" في مواجهة الركود الطويل الأمد الحالي وفي مواجهة أي أزمة مالية متوقعة في المستقبل.
من أين سيأتي
الاستهلاك حين يفقد
العمال مداخيلهم
بوتيرة سريعة؟

ثانياً، إن الرأسمالية اليوم تواجه عدواً أكثر خبثاً، متمثلاً في تطور القوى المنتجة الذي يتم بوتيرة غير مسبوقة ويتمثل بالتحديد بتطور الروبوتات والذكاء الاصطناعي. فنحن نعيش اليوم في ما سمي بـ"عصر الآلة الثانية" والذي يتمثل في استبدال العمالة من قبل الآلات الذكية. وقد كان ماركس الاقتصادي الأول الذي تحدث عن "الاستبدال التكنولوجي" المدفوع من قبل التنافس الرأسمالي. وكانت الرأسمالية سابقاً قد استوعبت الموجة الأولى من هذا الاستبدال، وهي الموجة التي قضت على وظائف لا تتطلب مهارات، وذلك من خلال تدابير مختلفة تراوحت من تدخل الدولة وصولاً إلى التوسع الجغرافي. ومع ذلك، فإن الموجة الثانية التي بدأت الآن، وستستمر في المستقبل، عبر استبدال العمالة الماهرة ستقضي على نصف الوظائف التي تتطلب مهارات في السنوات الـ20 المقبلة، وسوف تولد بطالة هيكلية عالية جداً في العقود القليلة القادمة، كما توقع عدد من الاقتصاديين والتكنولوجيين البارزين غير الماركسيين.
تنبأ ماركس في قسم "الجزيئات حول الآلات" في مخطوطات الـ Grundrisse هذا التطور الحاصل اليوم، إذ أكد أنه في المستقبل ستصبح الصناعة الكبرى والعلوم والتكنولوجيا أصل الثروة ويتم تهميش العمل. في هذه الحالة من التطور الرأسمالي، تصل التناقضات بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إلى ذروتها. وتطرح أسئلة عدة نفسها مثل "من أين سيأتي الاستهلاك حين يفقد العمال مداخيلهم بوتيرة سريعة؟" وسوف تطارد هذه الأسئلة النظام الرأسمالي بحثاً عن جواب من دون طائل. وإن أي حلول مثل نظام "الدخل الأساسي" الذي تُجرى مناقشته اليوم في العديد من البلدان لن تكون كافية. فقط في الانتقال إلى الاشتراكية سوف يتم حل هذه التناقضات.
في هذا السياق من الأزمة، نشهد تكثيف الهجمات الإمبريالية في جميع أنحاء العالم. في أميركا اللاتينية حيث يستمر الهجوم اليميني على الحكومات اليسارية التقدمية. في الشرق الأوسط، حيث بلغ التدخل الإمبريالي ذروته مع غزو العراق والفتنة اللاحقة في جميع أنحاء العالم العربي وتوليد الانقسامات الطائفية والعرقية وتفريخ المنظمات السياسية الإجرامية مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" ومتفرعات القاعدة. في أوروبا حيث بلغ الهجوم ذروته في الهجوم بقيادة الترويكا على شعب اليونان وفي التقشف المفروض على الطبقات العاملة الأوروبية بالإضافة إلى صعود الفاشية الجديدة. في أوروبا الشرقية وأوكرانيا حيث حلف شمال الأطلسي يمارس عسكريتاريته بزخم؛ في بحر الجنوب/بحر الشرق حيث تمارس الولايات المتحدة سياسة عسكرة البحار وتحلم باستعادة "دبلوماسية البوارج الحربية" ما يهدد السلام والازدهار في المنطقة.
كل هذا يجعل العالم يعيش في "أرض خراب الرأسمالية" والمهام التي تواجه الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية عديدة. ففي عشية الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى سنحتفل بالتأكيد في العام المقبل في روسيا وحول العالم ولكن الأهم من ذلك، أننا بحاجة إلى تطوير البرامج السياسية والاقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار الظروف المادية الموضوعية البارزة أمامنا، ما يستدعي تنبه العقول الماركسية. كما يجب علينا التخلي عن كل أشكال الدوغمائية والتعلم من أخطاء الماضي للمشروع الكبير لبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وليس التستر عليها تحت أي عباءة غامضة بطريقة تبريرية.
إن الحركة الشيوعية العالمية، وليست أي حركة يسارية فكرية، يجب أن تقدم نفسها كقوة سياسية وفكرية في مواجهة اليمين والتطرف الديني والرجعيات التي هرعت، مصنعة في بعض الأحيان، لترث الفراغات التي تركها فشل مشروع الرأسمالية النيوليبرالية. وتتحمل الأحزاب الشيوعية الحاكمة وما يمكن تسميته مراكز الجاذبية الشيوعية في العالم مسؤولية خاصة في هذا الإطار، بالإضافة إلى المسؤولية التي يتحملها كل الأحزاب الشيوعية والعمالية.
في هذا الإطار، ترتدي المسارات المختلفة نحو الاشتراكية في العديد من البلدان أهمية كبيرة. إن هذه المسارات بكل إنجازاتها الكبيرة، بالإضافة إلى المخاطر والمزالق الكامنة، تمثل اختلافات داخل الوحدة. وهي وحدة هدف تحقيق الاشتراكية التي ستحل محل الرأسمالية سواء انتهت الرأسمالية بانفجار كبير أو بهمس خافت.
* من خطاب أمام الاجتماع الثامن عشر للأحزاب الشيوعية والعمالية الذي انعقد في هانوي بين 28 و 30 أكتوبر.

///

من أين سيأتي الاستهلاك حين يفقد العمال مداخيلهم بوتيرة سريعة؟