تزامن انتشار مظاهر
العنف مع تراجع دور المؤسسات المتخصصة
في السياق، فإن معايشة الأطفال اليومية للعنف، وخصوصاً الموجودين في مناطق الصراع، يُسهم في تشويه بنيتهم السلوكيّة. وكثيراً من هؤلاء ينظر إلى العنف بكونه أمراً مألوفاً وطبيعياً. ولا يُستبعد أنه بات يشكّل أحد تجليات تفكيرهم، ما يرجح تماهيهم مع القاتل وتقليده في إطار لجوئهم إلى استخدام العنف. وذلك يؤكد معاناتهم من أزمات نفسية وعصبية، تنعكس بوضوح على أنماطهم السلوكية، ما يعني نشوء تشوهات في بنية الأطفال الذهنية الناظمة لممارساتهم السلوكية. ولا تنحصر تداعيات ذلك وآثاره على أوضاع الأطفال الذاتية، أو في مجالهم الذاتي، فإمكانية انتقالها إلى الحقل الاجتماعي العام بات أمراً واقعاً. ويتجلى ذلك من خلال رصد مظاهر العنف الرمزي، وتغيّر الأنماط السلوكية، فالأطفال الموجودون في مناطق الصراع يُجبرون في كثير من الحالات على استخدام العنف المادي المباشر. وأحياناً أخرى يلجؤون إليه اختيارياً، ولذلك أسباب ودوافع متعددة ومختلفة. أما في المناطق المستقرة أو شبه المستقرة، فإن تجليات العنف الرمزي بكافة أشكاله ودلالاته، إضافة إلى العنف المادي المباشر، باتت واضحة في طبيعة العلاقات البينية للأطفال.
في السياق ذاته، تعمل مجموعات «جهادية» على توظيف المساجد والمراكز «الدعوية» لغرس بذور العنف والتطرف عند الأطفال، إضافة إلى استخدامهم معسكرات خاصة لتدريب الأطفال على استخدام الأسلحة بأنواعها، وأيضاً على عمليات اقتحام، وأخرى انتحارية. وتعتمد هذه المجموعات في تجنيد الأطفال على الشحن العاطفي، وإغداق الأموال على الأهالي. وتستغل طبيعة الأطفال اللينة، لدفعهم إلى القتال، وتنفيذ عمليات انتحارية. ما يشكل بالنسبة إلى تلك المجموعات كنزاً ثميناً تضمن من خلاله استمرار فكرها وانتشاره بعد زرعه في رؤوس الأطفال. ويؤكد ذلك الحملة التي أطلقها السعودي عبد الله المحيسني مطلع شهر نيسان الماضي لتجنيد الأطفال، تحت عنوان «انفروا»، واستطاع وفق منظمات ناشطة في إدلب، استقطاب أكثر من ألف طفل من إدلب وحدها، إضافة إلى نحو 200 طفل جُنِّدوا في ريف حلب الشمالي. ومعظمهم زُجَّ بهم في الصفوف الأولى من جبهات القتال، وأطلق عليهم لقب «انغماسيين». ويعطي ذلك مؤشراً على طبيعة الحرب في سوريا، والفترة الزمنية اللازمة لانتهائها. وفي الإطار ذاته، نقلت مصادر إعلامية عن جهات متخصصة عن تدريب «داعش» 400 طفل يحملون الجنسية الفرنسية، و50 طفلاً آخر يحملون الجنسية البريطانية، إضافة إلى آلاف الأطفال السوريين، على القتال والعمليات الانتحارية. وجميع الأطفال الذين يُجبَرون على القيام بالعمليات المذكورة يُعاد تأهيلهم عقائدياً في مراكز التدريب، ويتقاطع ذلك مع إغلاق المدارس الحكومية، والاستعاضة عنها بمدارس يُدرَّس فيها أصول الشريعة والفقه من منظور جهادي متطرف. في السياق، إن نشر لغة التمييز والحقد الطائفي والمذهبي وتعميقها، يُمثّل تهديداً خطيراً لمبدأ التعايش والسلام الاجتماعي ويُنذر بتمزيق النسيج الاجتماعي، وتحلل القيم والمعايير الإنسانية.
من جانب آخر، تزداد بنحو ملحوظ حالات التحرش الجنسي بالأطفال، وإكراه القاصرات على الزواج بالمجاهدين. يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة التشغيل القسري للأطفال من الذكور والإناث في الدعارة. وهذا بدوره يترك آثاراً سيئة على وعي الأطفال وسلوكهم. ويُعَدّ التلاعب في آليات تفكير الأطفال ووعيهم، والتطاول عليهم جنسياً، وانتهاك براءتهم والاعتداء على أكثر شؤونهم الذاتية حساسية وخصوصية، انتهاكاً فاضحاً وصريحاً لمشاعر الأطفال وكرامتهم، وبالتالي على كينونتهم. وتُشكِّل الاعتداءات المذكورة جريمة بحق الطفولة، وتعدياً على كيانهم الوجداني والشخصي. وتُنذر بتشكُّل أزمات اجتماعية وأخلاقية تستوجب من المؤسسات التربوية والمراكز البحثية المتخصصة بالصحة النفسية والعصبية دراسة آثار الصراع على أوضاع الأطفال النفسية والعصبية، ووضع آليات علاجية علمية.
نشير أخيراً إلى أن تزامن انتشار مظاهر العنف بأشكاله كافة، مع غياب البدائل السياسية وتراجع دور المؤسسات المدنية المتخصصة، إضافة إلى تراجع دور السلطات الاجتماعية والهيئات البديلة، يُشكِّل مجالاً خصباً لاستمرار التطرف والاستقطاب المحمول على تجليات دون وطنية، ما يهدد الهوية السورية بالتشظي والتفكك والانهيار.
* كاتب وباحث سوري