انطفأ أمس مروان قصّاب باشي (1934 ــ 2016) أحد الملوّنين الكبار في منفاه البرليني. كأن شمس بادية الشام، التي رافقت أعماله المبكرة، لم تنضب أو تخبُ في أعماقه، رغم بعد المسافة، وطول السفر. شمس مشرقية مشعّة في عتمة برلين، لطالما ألقت بظلالها على وجوهه بمراياها المتعدّدة. هكذا بقي المصوّر الدمشقي يغرف من ذخيرة لونيّة خاصة، بتأثيرات من المحترف الأوروبي لجهة النبرة التجريبية في رسم تضاريس الوجوه. لبرهة، سنظن أن الملوّن الراحل لم يبرح منطقته الأثيرة في تكرار الوجوه، لكنّ فحصاً متأنياً لألبومه الضخم، سيحيلنا إلى سرديات كرونولوجية في إزاحة الطبقات المتباينة عن هذه الوجوه، خصوصاً في تجاربه المتأخرة، وهو بذلك ينسف التصورات الجاهزة عن ثبات عالمه اللوني. هكذا، اختزل تصوّراته التعبيرية في الوجوه والدمى، واستعار عناصر الطبيعة الصامتة في إكساء وجوهه المنهوبة والمضطربة والمعذّبة، وصولاً إلى الرأس. لا استقرار إذاً، في تجربة هذا التشكيلي المتفرّد، فهو دائم التململ، من مرحلة لونية إلى أخرى، متأرجحاً بين تيارات متعددة، وصولاً إلى ما يمكن أن نسميه «التجريدية التعبيرية».
تأرجح بين تيارات متعددة، وصولاً إلى ما يمكن أن نسميه «التجريدية التعبيرية»

كل لطخة لون، أو خط، أو إشارة، ترشح ضوءاً في لوحة مروان. كتلة مشرّبة بالنور، لم تعد هناك حدود ثابتة، بل تتأرجح الألوان معاً لتشكل جوهراً لونياً حريرياً. ولهذا السبب تحديداً، تصبح هذه اللوحة مشهداً للعقل والروح الحالمة. تروي التشكيلية شلبية إبراهيم أنها لم تستطع أن تبقى وحيدة مع إحدى لوحات مروان: «كانت اللوحة تتحرك، تتغير، يغادرها كل ما فيها من بشر وأشياء وروائح». هذا الأمر جعلها تدير اللوحة إلى الخلف، ثم اضطرت إلى مغادرة الغرفة. لكن من أين تأتي هذه الكثافة؟ هناك لمسة لونية أفقيّة، تطيحها لمسة شاقوليّة، خطوط غامقة وأخرى فاتحة. لمسة متروكة في معمار اللوحة، بكثير من العفوية والخبرة. من هنا تحديداً، تأتي أهمية تجربة هذا التشكيلي الرائد. التجربة التي اتخذت من الوجه الإنساني، وسيلتها الرئيسة، للتعبير عن حالة القلق التي يعيشها صاحبها، تجاه ما يجري حوله، بلغة شديدة التكثيف والتباين، رغم وحدة النص التشكيلي، وتكرار مفرداته، الأمر الذي يضع المتلقي في ارتباك معرفي، لالتقاط الأبواب السرية لخريطة الوجه. ذلك أن مروان قصاب باشي يعمل على الهدم والبناء والتفكيك بضغط من بوح جوّاني لعناصر تتناهبها لحظة الرسم ذاتها، بما تكتنزه من نزاعات نفسية ووجودية عصية على التفسير، أو كما يقول أدونيس: «إن الغاية من اللوحة عنده تتجاوز متعة البهجة البصرية إلى المتعة التي تتولد عن بهجة البصيرة».
وجوه مروان مخطوفة بالأسى على الدوام، وبحشد من العناصر المتشابكة في تقاطعات لونية، تعكس جحيم الداخل، إلى الدرجة التي تختفي فيها ملامح الوجه إلى مجرد إشارات أو علامات، تنتهي إلى بؤرة مركزية عند الفم، حيث تحتشد الأسئلة، كأن صرخة مكبوتة ستنفجر بعد قليل، وهذا ما يشير إليه الناقد الألماني يورن ميركيرت بقوله: «جميع هذه التكوينات البشرية تقف وسط فضاءٍ خاوٍ ضاغط، انسحب منه العالم الخارجي كلياً. مع ذلك، فإنها جميعها مأزومة. إنها صامتة كما خلف لوح زجاج يفصلها عن العالم الخارجي بشكل عازل». ليست غواية اللون وحدها ما يسبر أعماق هذه الوجوه، وما تكتنزه من أحلام وكوابيس. هناك حوار خفي بين ضربة الفرشاة الخشنة، ومرجعيات هذا التشكيلي الذي وجد نفسه فجأة نهباً لمحترفين متباعدين في الرؤى، فراح يحفر في المنطقة الفاصلة بين الباروك والصحراء، فسيفساء جديدة وساحرة، تنطوي على رحابة واختناق. في نسختها النهائية، كائنات مروان مأزومة ومجروحة وثكلى، تنطوي على حدس لوني يؤدي إلى مسالك متشعبة. حتى إنه في تجارب السنوات الأخيرة، لم يعد يكتفي بوجه واحد في اللوحة، بل بوجوه متقابلة، أو متجاورة، في وحدات سردية وإيقاعية، تنهض على ثنائية التناقض والنبذ، الغياب والحضور، الحياة والموت، كما أنها تنطوي على رؤى متناقضة، تجد تجلياتها القصوى في وجوهه المنهوبة، وألوانه الداكنة والكثيفة والمشبعة للتعبير عن عمق مأسوي أصيل. لا جواب نهائياً في أعمال مروان، فالسطوح تخضع للمحو المستمر، كما لو أنها جرف صخري تحت وابل من مطر اللون الكثيف. عدا الوجوه التي تشبهه في أحوالٍ متعدّدة لا تخلو من نرسيسية، كما لو أنها مفكّرة لونيّة للمنفى، التفت هذا الملوّن المتفرّد في مرحلة لاحقة إلى رسم وجوه أصدقائه، خصوصاً عبد الرحمن منيف. هنا سنكتشف انكسارات وجهه الصحراوي، إذ يغلب اللون البني والأحمر الداكن بما يشبه صحراء مثلومة بالألغاز، كما سيلتقط في بورتريه أدونيس ذلك القلق الحسيّ والصوفي المبثوث في نصوصه الشعرية، وسيختزل نحول وجه بدر شاكر السيّاب بلطخات انفعالية تعبّر عن آلامه المتراكمة. هناك تخطيطاته المائية أيضاً، تلك التي أهداها إلى أغلفة روايات عبد الرحمن منيف، وفقاً لتصوّراته الذاتية العميقة لشخوص صاحب «مدن الملح». غاب «دانتي اللون» بعيداً من الجحيم الدنيوي إلى معراجٍ آخر. ربما علينا أن نستعيد ثانية حكاية من بدأ حياته عاملاً في مصنع للجلود في برلين، قبل أن يطأ عتبة «المعهد العالي للفنون الجميلة» في برلين عام 1963، لينقش لاحقاً سجادة لونيّة مشبعة بالضوء، أو بساط ريح يجول بين أكثر من متحف عالمي.