في خطتها المستقبلية، لن تسعى الصين لتكرار تجارب روسيا أو الولايات المتحدة الأميركية، التي سبقتها بخمسة عقود كاملة من الاستكشافات، بل تسعى اليوم لتحقيق قفزة نوعية عبر دخول هذا المضمار من بابه الواسع وتسجيل سبق علمي جديد يسجل لمصلحتها في تاريخ الإنسانية.
الوجه المظلم للقمر

من المعروف علمياً أننا لا نرى من الأرض سوى جهة واحدة من سطح القمر. وهو برغم دورانه حول نفسه كل 28 يوماً، إلا أنه يدور حول الأرض بالسرعة نفسها حيث يكمل دورته حولها بـ 28 يوماً أيضاً. ونتيجة لذلك لا يرى الناظر من كوكب الأرض سوى جهة واحدة فقط على مر السنين. ولأننا لا نرى الجهة الأخرى، ظلت الأبحاث العلمية المرتبطة بالقمر متركزةً على الوجه المقابل لنا فندرسه من خلال التصوير والمسح والتحليل. وعندما أرسلت الولايات المتحدة مركبتها المأهولة نزل "نيل أرمسترونغ" ورفاقه على هذه الجهة لسبب تقني مهم جداً، وهو الحفاظ على الاتصال اللاسلكي مع غرفة التحكم في الأرض، إضافةً إلى الدراسات المسبقة التي جرت حول مكان الهبوط وظروفه الأخرى على الجهة المرئية لنا.

الصين إلى المقلب الآخر

اتخذت الصين قرارها: بدء استكشاف الجانب الآخر من سطح القمر وإرسال مركبة فضائية إليه لتكون الدولة الأولى، قبل الولايات المتحدة وروسيا، التي تضع أدوات من صنع الإنسان على هذا الجزء من قمرنا. وفي الخطة الصينية سوف يتحقق هذا المشروع خلال عقد من الزمن، وسوف يكون إنجازاً هندسياً وتكنولوجياً هائلاً في معايير العلم الحديث. ستتضمن هذه المهمة إرسال صاروخ فضائي يزن مئات الأطنان ويسير حوالي 400 ألف كيلومتر مع معدات الهبوط وسيارة صغيرة تتضمن مجسات وكاميرات ومنظار الأشعة ما تحت الحمراء "infrared spectrometer" لدراسة تربة القمر. وإضافة لذلك سوف تقوم هذه المهمة بالبحث عن نظائر الهيليوم التي يمكن استخدامها لاحقاً في توليد الطاقة الانصهارية، فيما ستكون مهمتها السياسية والتاريخية رفع علم الصين ودخول تاريخ العلم من بابه العريض.
استكشاف الجانب المظلم من القمر وإرسال مركبة فضائية إليه

قوة فضائية عظمى

تدير الصناعة الفضائية الصينية اليوم منظومة كبيرة من الأقمار الاصطناعية، التي تستخدم في مجالات واسعة، بدءاً من توجيه الطائرات والصواريخ العسكرية، وصولاً إلى دراسة أحوال الطقس ومسح سطح الأرض وتحليل باطنها، إضافة إلى أنظمة تحديد المواقع الجغرافية المدنية ومسح الأراضي الزراعية والتجسس على القواعد العسكرية للدول الأخرى. قامت الصين في العام الماضي بإطلاق 19 مركبة فضائية مقابل 26 مركبة لروسيا و18 مركبة للولايات المتحدة الأميركية. بذلك تفرض الصين نفسها اليوم قوة فضائية عظمى إلى جانب بضع دول أخرى تمتلك هذه التقنيات والإمكانات، لكنها لا تكتفي بذلك، بل تنظر إلى المستقبل وتطمح الى أن تتحول من إحدى الدول الفضائية إلى القوة العظمى والرائدة في مجال صناعة واستكشاف الفضاء.

المستقبل القريب

لا تسعى الصين اليوم لتكرار المسار السوفياتي/الروسي أو المسار الأميركي في استكشاف الفضاء وتطوير تكنولوجياته، بل تعمل أيضاً على تطوير تقنياتها الخاصة التي سوف تتجاوز بها البرامج الأخرى. ومن الأمثلة الأهم على ذلك هو مشروع القمر الاصطناعي "كويس" الذي سيختبر تقنية تشفير للاتصالات هي الأولى من نوعها في العالم، والتي تعتمد على مبادئ فيزياء الكم “quantum physics” لتخزين المعلومات وإرسالها من خلال خصائص كمية للجسيمات مثل الفوتون. وأهمية هذه التقنية أنها مستحيلة الاختراق من الناحية النظرية، لأن أي محاولة غريبة للدخول على هذه الشيفرة وتفكيكها تعطي مؤشرات فورية للمرسل والمتلقي على حد سواء، ما يمنع القدرة على التنصت أو التجسس للخصم. ومن الواضح أن لهذه التقنية تطبيقات مهمة جداً في المجالات العسكرية لأن الدولة التي تتمكن من السيطرة على هذه التقنيات تستطيع التواصل مع وحدات على أرض الخصم من دون أي اختراق، فضلاً عن حماية وحداتها الأساسية. تمتلك الصين اليوم القمر الاصطناعي الوحيد الذي يختبر العمل بهذه التقنية، وهو يرسل في هذه اللحظات إشارات ومعلومات لقواعده في الصين للتأكد من نجاح الاكتشاف، فيما الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة لم تبدأ هذه العملية بعد.
في عالم قائم على التكنولوجيا والاتصالات ونقل المعلومات في الميادين المدنية والعسكرية كافة، يتيح هذا الخرق لصاحبه السبق العلمي والاستراتيجي في الأمن كما في الاقتصاد والسياسة، وخاصة إذا تبين أن لهذه التقنيات تطبيقات مدنية مباشرة ذات إنتاجية وكفاءة في عالم المعلوماتية.

مشاعر القلق في واشنطن

تثير الاندفاعة العلمية الصينية مشاعر القلق في واشنطن لأسباب سياسية معروفة، وخوفا مبطنا من أن تجد الولايات المتحدة نفسها بعد سنوات متخلفة عن اللحاق ببعض الإنجازات الصينية، والخوف الأكبر هو أن تأخذ الصين راية القيادة في مجال الفضاء، فينعكس ذلك في حضورها السياسي على أنها القائدة الجديدة للعالم الجديد. وليس خفياً أن للصين طموحات سياسية من برنامجها الفضائي، فهي تتعاون اليوم مع العديد من الدول وتقدم لها خدمات رخيصة في مجال الفضاء، مثل إطلاق أقمار اصطناعية تستخدم للاتصالات والأبحاث ففي فنزويلا ونيجيريا ولاوس وبيلاروسيا، فيما تطور مع باكستان أقمارا اصطناعية عسكرية وتجسسية.
تستعد الصين اليوم لإطلاق مختبر علمي فضائي على متن المركبة "تيانغونغ 2" وقد بدأت استعداداتها لمشروع "تيانغونغ 3"، الذي سوف يمثّل المختبر العلمي الفضائي الأبرز لناحية الاختبارات والأدوات ورواد الفضاء العاملين فيه، وفيما ينتهي العمر الافتراضي "للمحطة الفضائية الدولية" عام 2024 من دون مشاريع جديدة لاستبدالها، تدخل الصين هذا المجال بانطلاقة حيوية وابتكارية، وقد تصبح الدولة الوحيدة التي تمتلك محطة بهذا الحجم في الفضاء في ذلك الوقت.
وإن كان البعض يخاف أن يتحول هذا التنافس المحتدم على الريادة في الفضاء إلى صراع مدمر، إلا أن تمكن بعض الدول مثل الصين من حماية استقلاليتها الفضائية الأمنية والمدنية والعلمية قد يؤدي أيضاً إلى ترسيخ الاستقرار عبر إضعاف الهيمنة الأحادية والجموح المرتبط بها.