بلى هي غالبية مسيحية. وغالبية غالبة. تثق بنبيه بري. ولا تصدق كل ما يقال هذه الأيام، باسم الرجل، ومن محيطه، أو ضد الرجل، أو من أعدائه.لا يصدق المسيحيون مثلاً، أن الأمين على حركة السيد موسى الصدر، "يقوّل" كلاماً فيه استعادة ولو لذكر الحرب الأهلية. ولو عرضاً، لا تهويلاً ولا تهديداً. ولا يصدق المسيحيون أن حامل إرث "الوطن النهائي لجميع أبنائه"، يُنسب إليه اتهام عن ثنائيات طائفية أو "جمهورية أولى" أو صيغة لا ميثاقية. ولا يصدق المسيحيون أن ممثل الطائفة التي قاتل أبناؤها كل المحتلين من دون استثناء، ودفع مقاوموها أغلى الأثمان وأقدسها، صوناً للسيادة في مواجهة كل الأعداء، هو نفسه من يحمّل زوراً، موقفاً يرفض إرادة اللبنانيين في اختيار رئيسهم، أو يجهض قرار مواطنيه في سيادة رئاستهم. ولا ولن يصدق المسيحيون، أن الطالع من معاناة المحرومين، يمكن أن يكون لحظة في موقع من يحرمهم من آمالهم وتطلعاتهم في وطن يتسع للجميع ولا يستثني أحداً. ولا يصدق المسيحيون، أن الذي ناضل ما يقارب نصف قرن، كي يكون هو هو، يرفض أن يكونوا اليوم هم هم، لا كما يريد لهم آخر أو يفرض عليهم غازٍ أن يتكيفوا أو يروضوا أو يدجنوا...
لا بل أكثر من ذلك، نعم ثمة غالبية مسيحية غالبة، ترفض أن تصدق الاتهامات التي يسوقها أعداء الرئيس نبيه بري. لا بل يرفضونها بالمطلق وحسب. يرفضون مجرد التلميح إلى أن ما يحصل هو نتاج مؤامرة كبرى تستهدف المقاومة أولاً وأخيراً. بحيث يذهب المسار النزاعي المستجد رئاسياً، إلى لحظة يصير فيها إما الطلاق وإما الصدام أمراً حتمياً. إما طلاق المقاومة مع شارع ميشال عون، وإما الصدام في بيئتها وبيتها. وفي الحالتين تكون تلك القوة الوطنية الضرورية قد أصيبت في حصانة أساسية من حصاناتها الوطنية. في لحظة حصارها من قبل أكثر من عدو معلن أو مضمر. ولا يصدق المسيحيون مجرد الهمس أو الإشارة أو المزح حتى، بأن لبنانياً واحداً يقبل إضعاف مقاومتهم في وجه اسرائيل وفي وجه الإرهاب.
ولأنهم كذلك، يؤمن المسيحيون، بغالبيتهم الغالبة هذه، أنهم مع كل مواطنيهم أبناء جبلة واحدة. متساوية في الأصل والفصل والنسغ والنسب والدولة والسلطة والحق والواجب. ولأنهم كذلك، يؤمن المسيحيون بأن اللبنانيين كلهم، قد تعبوا من الاحتفال بأحزان بعضهم. ومن الابتهاج بآلام قسم منهم. وأنهم قد كفروا بعقود من الرقص على قبور بعضهم، والانتصار بهزائم فئة منهم، والفوز على حساب فئة أو جماعة أو طائفة. لقد تعلم المسيحيون، بثمن الهزيمة والشهادة والدماء والمنفى والمعتقل، أنهم لا ينتصرون إلا بانتصار كل لبناني، وكل اللبنانيين، حتى آخر لبناني منهم. وأنهم لا يحيون حريتهم وكرامتهم، إلا بحرية كل مواطنيهم، وبكرامة كل شركائهم في الوطن والمواطنة. لقد خبر المسيحيون، الغالبية الغالبة منهم، حفراً في الوجدان وعلى ما تبقى من أجسادهم، أن احتفالهم بانتخاب بشير الجميل، فيما وليد جنبلاط يبلغ سلامه إلى تيمور مهاجراً، ليس نصراً ولا فوزاً ولا فرحاً. بل أول الطريق صوب الهزيمة. تماماً كما خبر المسيحيون، أن احتفالات شركائهم بالوطن بأي دولة ووطن، فيما ميشال عون منفياً أو سمير جعجع معتقلاً، ليس استقراراً ولا سلاماً ولا وفاقاً ولا ميثاقاً. بل الخطوة الأولى نحو انكسار الوطن والجنوح صوب الكارثة.
ولقد شاهد المسيحيون وشهدوا طيلة ربع قرن، كيف أن وطنهم لا يعيش بنصف وطن. ولا بثلث شعب. ولا بربع سيادة. ولا بمرابعين ولا بثنائيات أو مثالثات ولا بأنصاف قادة. حتى صاروا يحترفون الحلم. لا بل يرتكبون الرجاء. حلمهم هذا كان يوماً منذ أحد عشر عاماً، أن يوحدوا شهادات شهداء الوطن. وأن يجمعوا تضحيات كل جماعاته على مذبح سيادة وشراكة وحرية وكرامة خبز وعمل ومنزل وغد. وأن يصالحوا دماء الذين سقطوا كلهم، مع رجاء الذين صمدوا كلهم. فلا يسقط لهم شهيد من بعد إلا على الجبهة الصحيحة. ولا يترك لبناني منهم أرضه إلى أرض غريبة.
لقد حلم المسيحيون طويلاً، حتى جاءت اللحظة. لحظة أنضجتها التراكمات. وساعدتها أولويات الخارج المرتد عنا. وفرضتها ضرورات الوطن المترنح المتداعي على رؤوسنا جميعاً. لحظة، نسجتها عوامل داخلية بحتة: منها صمود ميشال عون. ووفاء حسن نصرالله سيد الوفاء. ومصالحة سمير جعجع وتطهّر ذاكرة مسيحية كاملة من لحظات التدمير الذاتي. وشجاعة سعد الحريري في الإقدام على ما فاتنا لحظة استعادة السيادة. وعقلنة وليد جنبلاط، وحتى قناعة سليمان فرنجيه واقتناع الغالبية الغالبة من اللبنانيين... لم يعد ينقص هذه اللحظة إلا حكمة نبيه بري. وغالبية المسيحيين، كما اللبنانيين الغالبة، تدرك كم أن حكمته وافرة وقادرة وحاضرة. وأنه وأنها لن يخيباهم!