في عتمة السجون الطويلة، لا يكتفي الأسرى الفلسطينيون بساعات النقاش والقراءة والمشاركة في البرامج الثقافية، ولا حتى بالتمارين الرياضية لـ«تقطيع» الوقت؛ من أجل التخفيف عن أنفسهم؛ يلجأون إلى المقالب والمواقف الطريفة في ما بينهم، لعلهم يكسرون حدّة الأسود بالرمادي، ويعبرون منه إلى ما يشبه الحياة. ففي معركة «تقطيع الوقت»، للمواقف الطريفة أهميتها في إبقاء الإنسان حيّا داخل الأسر. هذه بعض القصص والمواقف الطريفة التي عاشها عدد من الأسرى المحررين في المعتقلات الإسرائيلية:
«هرتزل» والشقراء

أمضى الأسير المحرر معاذ مشعل أربع سنوات داخل سجن النقب الصحراوي، يستذكر مشعل يوميات الأسر، وأطرف المواقف التي عاشها. إحدى تلك القصص كانت عندما احتاجوا إلى سخان ماء كهربائي كان متوافراً في قسم آخر. رفضت إدارة السجن طلبهم باستعارته، فوقع الاختيار على ممثل المعتقل، وهو شاب يدعى سعد، وكان يحظى بإحترام إدارة السجن بسبب شبهه الكبير بثيودور هرتزل (أحد أعلام الفكرة الصهيونية).
طلب سعد السخان من «سُهير» القسم (شرطية إسرائيلية). صمت مشعل قليلاً كأن المشهد يتكرر أمامه الآن: «وقف هيرتزل على باب قسمه ونادى السُهير، وهي إثيوبية سمراء قصيرة القامة وشعرها مجعّد، قال لها: شو عاملة بحالك اليوم؟ طالعة مثل القمر، بس لو تصبغي شعرك اصفر بتطلعي أحلى وأحلى». بعد الغزل، طلب سعد منها «إحضار السخان فأحضرته فوراً». أكمل مشعل حديثه ضاحكاً: «في اليوم التالي سمعنا صوت أحدهم ينده (يصرخ) لهيرتزل، وإذ بالسُهير في منتصف الساحة وشعرها لونه أصفر، تقول له صبغت شعري أصفر زي ما حكيت... كيف طالع شكلي؟».

قرار التمديد مكتوب على «الكنافة»

الأسير المحرر ضياء حروب استذكر موقفاً طريفاً حدث معه في معتقل النقب الصحراوي عام 2015: «كنت في انتظار الخروج من المعتقل بعد قضائي ستة أشهر سجنا إداريا، وبينما كنت في زيارة لأسرى في قسم آخر، وصل قرار تمديد سجني ستة أشهر أخرى إلى قسمي، فاستلم الرفاق القرار محتارين بأي طريقة سيخبرونني أنه مُدّد اعتقالي وخصوصاً أنني كنت متفائلاً بأنني سأنال حريتي في اليوم التالي».
يواصل: «عدت إلى قسمي ومعي شوكولاتة وفستق حلبي، وطلبت من الرفاق صنع الكنافة بما أنني أحضرت المكسرات. بدأوا بإعدادها، وكنافة الأسرى هي خبز مطحون يرش بالمياه ليصبح طرياً ثم يحمص مع الزيت إن توافر، بعد ذلك يرصّ الخبز على الصينية وتُرش فوقه القرفة ثم يوضع على البلاطة (عبارة عن قطعة معدنية تعمل على الكهرباء يستخدمها الأسرى لساعات معينة خلال اليوم لتسخين الطعام، ثم تضاف إليه المكسرات إن توافرت بعد تكسيرها بالحجارة».
بينما كان جالساً على سريره بعد انتهاء زملائه من «طبخ الكنافة»، تجمع الرفاق من حوله ومعهم صينية «الكنافة» وقد رُسم عليها الرقم 6 بالفستق الحلبي المطحون. بدأوا بالغناء: «مبروك مبروك يا حبيبي قلبي مبروك، مبروك التمديد يا رفيق، مبروك التمديد يا غالي رح نكسب شوفتك كمان ست شهور».
حينذاك فهم حروب الرسالة: «استمر الضحك والغناء والزغاريد في القسم أسبوعاً كاملاً، ولم أشعر بقسوة الموقف إلا في الأسبوع التالي».

«أسير» ينتحر!

ما فعله الأسير المحرر رامي جبيل (36 عاماً، وأمضى خمس سنوات على مدد متفرقة)، مع سهير القسم في سجن عسقلان كان على غير العادة. يقول: «صنعت مجسماً لرجل من الملابس والأغطية الموجودة معنا وعلقت المجسم في مكان بعيد عن الكاميرا الموجودة داخل القسم، لكن بطريقة ما تمكّن السهير من رؤيته». في جولته المسائية رأى الشرطي جسماً يتأرجح من سقف القسم. اقترب من الباب بخطوات بطيئة وعلامات الخوف ظاهرة عليه. وقف على باب القسم ورآه يتأرجح. ضرب جهاز «الازعكا» (الإنذار)، وتوجه نحو مكتب مدير السجن ويدعى زيد.
يضيف جبيل: «في هذه الأثناء أنزلت اللعبة وأخفيت الملابس والأغطية وتوجهت نحو سريري مدعياً بأنني أغط في نوم عميق. بعد برهة دخل مدير السجن زيد وتوجه نحوي قائلاً: رامي شو في، مين اللي انتحر؟. اجبته: مالك يا زلمة مين انتحر؟ رد زيد: يعني ما في اشي؟ السهير شاف واحد معلق بالسقف». رد جبيل: «يا زلمة مين بدو يعلق حاله بنص هل الليل... كل القسم نايم». تابع جبيل ضاحكاً: «عاقب مدير السجن السُهير ولم نره بعد ذلك اليوم».

جنّ داخل القسم

يعاني أحد الأسرى تشنجا عصبيا (كريزة كهربا)، فنشر الأسرى إشاعة فيما بينهم أنه مصاب بمس من الجن. بعد انتشار الكذبة فوجئوا بأسير بينهم يدعى إبراهيم، يرتعد خوفاً من سيرة الجنّ، فقرر الأسرى تضخيم الاشاعة وتنفيذ مقلب بإبراهيم. اتفق الأسير المحرر الموجود في القسم الرقم 12، الذي يصاب بتشنج عصبي متكرر، مع زملاء إبراهيم في القسم الرقم 10 (الموجود تحت القسم ١٢) بإخباره بأنه يوجد في القسم فوقهم أسير ممسوس من الجن، وأنه في يوم التصوير (يوم سنوي يجري فيه تصوير كل أسير ثلاث صور لإرسالها لأهله، ويستعير الأسرى ملابسهم وأحذيتهم من بعضهم بعضا)، سيطلب الأسير الممسوس استعارة بنطال إبراهيم.
قال الأسير «الممسوس بالجن»: «بعد إشاعة الأسرى خبرا بأنني مصاب بمس جني، وبعدما سماع إبراهيم بذلك؛ صار يخاف مني إلى درجة الهرب عند رؤيتي ورفضه إعارتي ملابسه». فاتفق الأسير مع زملاء إبراهيم في القسم الرقم 10 على ذكر اسمه أمام إبراهيم في ساعة حددت فيما بينهم، ثم يقوم هو من داخل قسمه الرقم 12 بعد مدة قصيرة بالرد عليهم موحياً بأنه كان يسمع حديثهم.
«قالوا لإبراهيم هناك أسير ممسوس بالجن، اليوم شفناه بالحمام بضرب راسه بالحيط وبحكي حكي غريب وكان يشتم». وكتب أحد الأسرى ورقة عليها رموز وطلاسم غير مفهومة وكتبوا فيها كلمة الله أيضاً، واعطوها لابراهيم مدّعين أنهم وجودها مع الأسير الممسوس. بدأ إبراهيم بالصراخ وبحسب الاتفاق بينهم؛ قام الأسير الممسوس والموجود في القسم تحتهم بالصراخ لإبراهيم قائلا له: «ولك إبراهيم قاعد بتحكي علي... طيب انا بفرجيك. خاف إبراهيم وبدأ يرجف سائلاً: «كيف عرف انو بنحكي عليه».
في اليوم التالي، وفي ساعة الفورة (وقت الاستراحة)، التقى إبراهيم الأسير الممسوس في الممر فهرب إلى الحمام بسرعة، وذهب الأسير خلفه ليجده يقف تحت الدوش بملابسه وهو يقول: «ابتعد عني، ابتعد عني، انا بتحمم ومش لابس روح روّح». يضيف الأسير «الجنّ»: «عند خروجه من الحمام وجدني أمامه أصدرت أصواتاً غريبة وقلبت عينيّ إلى أعلى، عندما رآني ازرقّ وجهه وبدأ بالبسملة وقراءة آيات من القرآن؛ بصوت غير مفهوم. لم أتمالك نفسي من الضحك وأخبرته الحقيقة بأنني أعاني تشنجاً عصبياً، واعتذرت منه.