إندلعت الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعلم مسبق من الحكومة الأميركيّة بنيّات ميليشيات اليمين اللبناني وخططها. والافتراض أن خطط هذه الميليشيات كانت مستقلّة عن خطط الحكومة الأميركيّة في لبنان يدخل في نطاق السذاجة المفرطة. فقد كانت الحكومة الأميركيّة قد أعدّت ــــ عن سابق تصوّر وتصميم ــــ تسليح الميليشيات وتجهيزها منذ ما قبل اندلاع الحرب بسنتين على الأقل (قد يكون التسليح بدأ في عهد شارل حلو، إذ كانت طلبات التسلّح ترد في كل لقاءات الزعماء الموارنة مع الديبلوماسيّين الأميركيّين. لكن الوثائق التي بين أيدينا تجزم بتاريخ ١٩٧٣ لتسليح الميليشيات بالتعاون من الجيش اللبناني الذي أصبح مُشرفاً رسميّاً ــــ بإيعاز من واشنطن ــــ على ذلك. كما ان تلك الميليشيات كانت تتلقّى التمويل والتسليح من جهات خارجيّة أخرى كالنظام الشاهنشاهي الإيراني والأردن وحكومات أوروبيّة غير مُحدّدة).
طائرات أميركية نقلت للكتائب أسلحة من وارسو عام 1973 وشمعون طلب سلاحاً من إيران
وكان سركيس سوغانليان المُسلِّح الأبرز لميليشيات «الأحرار» و»الكتائب» (باعتراف السفير غودلي). وكان يستعمل إسم الحكومة الأميركيّة في أعماله ومعاملاته (ممّا أزعج السفارة الأميركيّة في بيروت ربّما لأنها كانت تريد ان يبقى التسليح سريّاً أو لأنها لم تكن على إطلاع كامل على أعمال المخابرات الأميركيّة، وربّما خشيت ان تؤثّر مجاهرة سوغانليان على علاقتها بالأطراف المختلفة في لبنان). وفي ٨ تمّوز حطّت طائرة بوينغ ٧٠٧ كان يملكها سوغانليان في مطار بيروت وأفرغت حمولتها في شاحنات ذات لون زيتي (ص. ١٥١). وأبلغ سوغانليان شركة «بان أم» ان الحكومة الأميركيّة وافقت على استعمال معدّات «بان ام»، وان كل الوثائق المتعلّقة بعمليّة النقل يجب ان تُرسَل إلى السفارة الأميركيّة. وأبلغ السفير غودلي المدير العام للقصر الجمهوري بطرس ديب أن «الشحنة» ليست «من شأني» (ليست من اختصاص السفارة، بل من اختصاص أجهزة أخرى في الحكومة الأميركيّة). وأفادت مصادر المخابرات الأميركيّة ان الشحنة تضمّنت بنادق كلاشنيكوف تم شراؤها من وارسو وشُحنت عبر مدريد لصالح ميليشيا الكتائب. ويبدو من ردّ فعل السفير الأميركي انه كان هناك تضارب بين عمليّات المخابرات الأميركيّة ومواقف الديبلوماسيّين الأميركيّين في سفارة بيروت. (كان السفير الأميركي في لبنان في أواخر السبعينات ريتشارد باركر لا ينظر إلى بشير الجميّل إلا كـ «أزعر»، كما اخبرني في سنوات تقاعده في واشنطن، عندما عملَ رئيس تحرير مجلّة «ميدل إيست جورنال»، فيما كانت حكومته تعمل مع الحكومة الإسرائيليّة على دعمه بقوّة، وبالطبع زاد هذا الدعم في ولاية رونالد ريغان).
زادت وتيرة طلبات التسليح من قبل ميليشيات اليمين. كما كانت الحكومات الرجعيّة في المنطقة تحثّ الحكومة الأميركيّة على مساعدة هذه الميليشيات. فقد أخبر وزير البلاط الإيراني أسد الله علم نائب السفير الأميركي في طهران أن السفير اللبناني في إيران خليل الخليل (إبن كاظم الخليل الذي كان يشغل منصب نائب رئيس حزب «الأحرار») طلب مساعدة من إيران لميليشيا «الأحرار». وهنا، استفسر عَلَم من الديبلوماسي الأميركي ما إذا كان هناك مبادرات من قبل أميركا أو غيرها في هذا الشأن. وفيما لم تذكر السفارة الأميركيّة في تقريرها ما إذا تم الاستجابة لطلب الخليل، ذكر تقرير لوكالة الاستخبارات الأميركيّة ان الحكومة الإيرانيّة قدمت تسليحاً إلى «الميليشيات المسيحيّة». كما أشار السفير اللبناني في عمّان إلى مساعدة عسكريّة أردنيّة، لكن من دون توضيح طبيعتها.
الجديد، أو المُلفت، في الوثائق الأميركيّة هو الدور النشط للنظام الأردني في دعم ميليشيات اليمين اللبناني وفي الترويج للنظام السوري عندما باشر معاداة اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينيّة. والدور الأردني كان سريّاً إلى درجة أنه لم يكن يرد حتى في ادبيّات الحركة الوطنيّة اللبنانيّة آنذاك. فالنظام الأردني كان، ولا يزال، يخفي تآمره وراء ستار كثيف من الخطاب المتحفّظ والمؤدّب (ظاهراً وشكليّاً فقط). كما ان معارضة إتفاقيّة «سيناء ٢» جعل العلاقة بين النظامين السوري والأردني أكثر دفئاً، ورأى الملك حسين في تحالفه مع حافظ الأسد فرصة لتقويض قيادة منظمّة التحرير الفلسطينيّة. وهو أبلغ السفير غودلي أنه يأمل في أن يتلقّى قريباً مساعدة من الأسد لإستبدال قيادة منظمّة التحرير بقيادة جديدة «معتدلة ومسؤولة»، وأن ذلك من شأنه الاسهام في الاستقرار في لبنان. وأجاب غودلي بأنه لا يرى غضاضة في التقارب بين كل من النظام السوري والأردني واللبناني (كأطراف ثلاثة في معاداة قيادة المقاومة الفلسطينيّة). وكان الديبلوماسيّون الأميركيّون في المنطقة يرون في دور النظام السوري عنصراً إيجابيا.
كانت الميليشيات اليمينيّة ــــ كما ينقل ستوكر عن رواية كمال الصليبي في تأريخه للحرب الأهليّة والتقارير الأميركيّة عن الحرب ــــ تسعى إلى إستجلاب التدخّل الخارجي أو على الأقل تدخّل الجيش اللبناني إلى جانبها. وكان قصف منطقة الأسواق في صيف ١٩٧٥ جزءاً مهماً من هذا المخطّط. وقد حاول شمعون إبلاغ السفارة الأميركيّة بنيّته إنزال الجيش إلى الأسواق (بحجّة حمايتها بعد ان قدمّت ميليشيات اليمين الذريعة)، إلا أن السفارة الأميركيّة تنصّلت من قرار شمعون ــــ على الأقل وفق تقارير السفارة. لكن طلب التدخّل الأميركي لم يتوقّف ومن جهات مختلفة. فقد دعا غسّان تويني السفير غودلي إلى مأدبة عشاء في منزله، وسأله (بتكليف من سليمان فرنجيّة بحسب قراءة غير برغرسون هوز للوثائق الأميركيّة في أطروحته الجامعيّة في جامعة أوسلو، ص. ٤١) ما إذا كان يمكن للحكومة الأميركيّة النظر في طلب «تدخّل عسكري أميركي في لبنان» (ص. ١٥٥). وكان جواب غودلي (في تقريره) انه كان يظنّ ان تويني يعرف أميركا معرفة تتيح له الجواب عن سؤاله بنفسه. كما طلب تويني ان تصدر الحكومة الأميركيّة بياناً يؤيّد «وحدة أراضي لبنان». لكن السفير ذكّره بأن الإدارة الأميركيّة في عهدَيّ فورد ونيكسون فعلت ذلك في رسائل إلى فرنجيّة. وفيما تعاملت الخارجيّة الأميركية مع طلب تويني (الثاني) بإيجابيّة، كان رأي غودلي معاكساً لأن بياناً في دعم الاستقرار في لبنان «يمكن ان يُشجّع التعنّت المسيحي وسياسة حافّة الهاوية من قبلهم»، كما يمكن «أن يُفهم كتهديد من قبل السوريّين والمتطرّفين المسلمين اللبنانيّين». وقدّر السفير أن «النشاط المسيحي اليميني يتحمّل مسؤوليّة تتعدّى الخمسين في المئة عن تفجير الجولة الرابعة» (في صيف ١٩٧٥) من الحرب الأهليّة.

فدية غذائية

لكن قبل تفجير «الجولة الرابعة» توالت التفجيرات في مناطق مختلفة من لبنان، كطرابلس وزحلة، على يد الميليشيات الانعزاليّة. ولم يتطرّق ستوكر في كتابه بتاتاً إلى قضيّة الكولونيل إرنيست مورغان الذي خطف في لبنان في تمّوز ١٩٧٥ وأطلِق سراحه بعد ١٣ يوماً. الخطف تمّ على يد منظمّة لم تعلن عن اسمها قطّ إلا في هذه العمليّة، هي «منظمّة العمل الاشتراكي الثوري» (وهي غير «حزب العمل الاشتراكي العربي ــــ لبنان»). وهذه المنظمّة كانت قريبة من «الجبهة الشعبيّة ــــ القيادة العامّة» أو الرديف اللبناني لها، وكانت بقيادة «جابر برغل» (أبو العبّاس نفى في مؤتمر صحافي لـ»جبهة الرفض» آنذاك الصلة بين المنظمّة وبين «القيادة العامّة»، وإن أبدى تعاطفاً مع العمليّة). وطالبت المنظمّة لإطلاق مورغان بفدية، هي عبارة عن أطنان من الرز والطحين وزيت الطهي ومواد غذائيّة أخرى وملابس داخليّة وقمصان وسراويل وأحذية وإسمنت وحليب أطفال للفقراء في المسلخ والكرنتينا. وكعادتها، أصرّت الحكومة الأميركيّة على موقفها المُعلن برفض التجاوب مع طلبات الفدية من أي جهة كانت. لكن المؤلّف إدغار أوبالانس ذكر في كتابه غير المعروف، «الحرب الأهليّة في لبنان ١٩٧٥ ــــ ١٩٩٢»، ص. ١٤، ان السفارة الأميركيّة في بيروت رتّبت دفع الفدية (بقيمة ٣٠٠,٠٠٠ دولار) عبر طرف ثالث.
طلبت باريس من واشنطن دعم التدخل العسكري السوري والسماح لدمشق باستخدام القوة

لكن ماذا كان الكولونيل مورغان يفعل في بيروت في ظلّ أجواء الحرب؟
ذكرت الصحافة الأميركيّة في حينه ان مورغان (الذي وصل إلى بيروت من قاعدة عسكريّة في باكستان) كان في مهمّة لتسليح الكتائب. (ورد ذلك في وثيقة أميركيّة ــــ لم تنشر في كتاب ستوكر ــــ ذُكرت في أطروحة ماجستير في جامعة أوسلو لغير برغرسون هوز عام ٢٠١٤، تحت عنوان «عرض جانبي خطير: أميركا والحرب الأهليّة اللبنانيّة، ١٩٧٥ ــــ ٧٦»). وكانت الصحافة اللبنانيّة اليساريّة (كما ورد بالتفصيل في التقارير الأميركيّة المنشورة بعد خضوعها للرقابة، والتي كما أسلفنا لا ترد في كتاب ستوكر) اتهمت مورغان بالعمل لحساب المخابرات الأميركيّة، وأنه كان في مهمّة لتسليح الميليشيات اليمينيّة. وكان خطف مورغان موضع اهتمام كبير من قبل الحكومة الأميركيّة. وتتطرّق وثيقتان من «ويكيليكس» من سنة ١٩٧٥ إلى الأمر وتشيران إلى «حساسيّة» الموضوع ودقّته بطريقة يُشتم منها بأنها مسألة عسكريّة أو استخباريّة غير عاديّة.
أما الرواية الرسميّة لمجيء الضابط الأميركي إلى بيروت فغير مُقنعة البتّة. إذ تقول إن مورغان (قاتل في حربيْ فيتنام وكوريا) وصل إلى بيروت وأقام في فندق ملكارت، في طريقه إلى مهمّة في تركيا. وهو زعم أنه غادر الفندق يوم الأحد متوجّهاً إلى مكتبة المطار لشراء صحف أجنبيّة، علماً أن المكتبة تُقفل في هذا اليوم. وقد تشكّلت لجنة خاصّة في وزارة الخارجيّة الأميركيّة (بقيادة المسؤول عن مكافحة الإرهاب) للعمل على إطلاق سراح الكولونيل. وتُظهر التقارير الأميركيّة، بما فيها «التقرير الإخباري اليومي» الذي تعدّه المخابرات الأميركيّة للرئيس الأميركي، جهل الحكومة الأميركيّة بواقع منظمّات اليسار والمقاومة الفلسطينيّة في لبنان. إذ يشير التقرير إلى ان المنظمّة الخاطفة إجراميّة غير سياسيّة، وإن تخفّت وراء شعارات يساريّة. لكن كيف تكون المنظمّة إجراميّة وهي لم تطلب أمراً لنفسها؟ وكان تقرير مماثل قد زعم ان منظمّة «إجراميّة» كانت وراء عمليّة «بنك أوف أميركا» التي نفّذتها «المنظّمة الاشتراكيّة اللبنانيّة الثوريّة» عام ١٩٧٣. ووصف تقرير آخر، مثلاً، جريدة «الشعب» (المعروفة بناصريّتها المتزمّتة) بأنها «موالية للسوفيات». وتتضح أهميّة دور مورغان في «تقرير إخباري رئاسي يومي» تضمّن فصلاً عن موضوعه، لكن نصفه خضع لمقصّ الرقيب. وهناك تقارير من كيسنجر، في حينه، تطلب من الديبلوماسيّين الأميركيّين عدم التحدّث في الموضوع. ونحتاج الى مزيد من الوثائق كي نعرف أكثر عن مهمّة مورغان الذي توفي عام ٢٠٠١، وذكر نعيه الرسمي في مقبرة «ارلنغتون الوطنيّة» الخاصّة بالقوّات المسلّحة انه تخرّج من «كليّة الاستخبارات» التابعة للجيش الأميركي. (حاول ياسر عرفات عبر وسيطه خليل خوري، ابن بشارة الخوري وشقيق ميشال خوري، مبعوث شارل حلو السرّي لدى السفارة الأميركيّة في بيروت، استغلال مساعيه «الحميدة» لاطلاق مورغان من أجل التقرّب من الحكومة الأميركيّة، كما فعلت الحكومة السورية الأمر نفسه للغاية ذاتها).

حرق الأسواق

لكن الجولة الرابعة اندلعت بقوّة. كان تشكيل حكومة رشيد كرامي هو الضامن لعدم اندلاع تلك الجولة آنذاك، وقد قال كرامي في حينه: «يتحدّثون في كل يوم عن السلاح والتسليح والجولة الرابعة. ونحن نقول إن الجولة الرابعة المزعومة هي حديث خرافة، وحديث عملاء، وحديث خونة». (راجع فؤاد مطر، «سقوط الامبراطوريّة اللبنانيّة»، الجزء الأوّل، ص. ١٠١). وهكذا اندلعت، بعد ايّام، تلك الجولة التي أطلقت التسعير الجنوني للحرب. وكما أورد التقرير الديبلوماسي الأميركي، أشعل الانعزاليّون تلك الجولة في سياق نزاع داخل الحكومة بين كميل شمعون (ومُن يمثّل) الذي أراد إنزال الجيش لخوض المعركة في صف الميليشيات الانعزاليّة وبين رشيد كرامي الذي رفض ذلك. وبسبب رفض كرامي، أطلقت ميليشيا الكتائب قذيفة صاروخيّة في ١٨ أيلول ١٩٧٥ على بناية «سينما أوبرا» في ساحة الشهداء، مما أشعل حريقاً هائلاً في المنطقة. هذه هي حقيقة حرق الأسواق في وسط بيروت والتي حُجبت وراء شعارات الانعزاليّين المستحدثة لاحقاً، والكاذبة، عن «مقاومة التوطين الفلسطيني». وتبعت القصف عمليات إحراق وتخريب مقصودة لكل المنطقة التجاريّة وإحراق أكواخ الفقراء في منطقة الكرنتينا.
حذّر الملك حسين، الذي قال انه اطلع على تقارير عسكريّة من كبار المسؤولين في دمشق، من عواقب وقف المساعي السوريّة السياسيّة في لبنان على المصالح الأميركيّة. ولم يكن الملك الأردني وحده ــــ مع الميليشيات اليمينيّة ــــ مُطالباً بتدخّل عسكري أميركي. فقد طلب العدوّ الإسرائيلي في أيلول ١٩٧٥ (في مرحلة مبكِّرة جداً من الحرب) تدخّلاً عسكرياً أميركياً في لبنان لمنع «تهاوٍ ممكن للقوّات المسيحيّة» (ص. ١٥٦ من كتاب ستوكر). وسأل شمعون بيريز، وزير الدفاع، هنري كيسنجر عن إمكانيّة مساعدة أميركا لـ «عناصر معتدلة» في لبنان، في إشارة إلى الميليشيات اليمينيّة. وجاء في مذكّرة اللقاء ان المناقشات لم تكتمل. وبعد أربعة أيّام، سأل إيغال ألون (وزير خارجيّة العدوّ) كيسنجر عن إمكانيّة فعل شيء لمنع «اسلمة» لبنان، فلم يعطٍ كيسنجر جواباً واضحاً. والاهتمام الإسرائيلي بالميليشيات الانعزاليّة لم يكن له أي علاقة أبداً بما كان العدوّ الإسرائيلي يعلنه باستمرار حتى عام ١٩٨٢ عن «حرصه على المسيحيّين» وعن «دفاعه عن الأقليّة المسيحيّة» في لبنان. على العكس من ذلك، ينقل «تقرير إخباري رئاسي يومي» يعود ليوم ١٧ تشرين الثاني ١٩٧٦ (ونُشر قبل أسابيع فقط) عن الحكومة الاسرائيليّة أسباب تسليح إسرائيل للميليشيات اليمينيّة، فيشير الى «أن إسرائيل ستستمرّ في تسليح القوّات المسيحيّة العاملة في الجنوب من أجل: ١) مساعدتهم على تقوية سيطرتهم في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانيّة ــــ الاسرائيليّة. ٢) تعزيز موقعهم التفاوضي الإجمالي في المفاوضات حول مستقبل لبنان. ٣) تشجيعهم على الاعتماد على العون الإسرائيلي».

فرنسا مع التدخل السوري

كان الموقف الفرنسي موازياً للموقف الأردني في إقناع الحكومة الأميركيّة (بعض أجهزتها لم تكن تحتاج إلى إقناع خصوصاً الديبلوماسي المعروف ريتشارد مورفي الذي كان يثني في تقاريره من دمشق على الدور السوري في لبنان) بضرورة دعم التدخّل العسكري السوري في لبنان. ففي أواخر أيلول ١٩٧٥، نظّر وزير الخارجيّة الفرنسي جان سوفانيارغ في لقاء مع هنري كيسنجر بأنه يجب ان «يُسمح للسوريّين باستعمال القوّة إذا ما اقتضت الضرورة»، وسأل إذا كانت إسرائيل ستتدخّل في حال دخول بعض كتائب الجيش السوري إلى لبنان. وعندما قال كيسنجر ان إسرائيل قد تتدخّل، اعترض سوفانيارغ قائلاً ان التدخّل السوري «لن يؤثّر على أمن إسرائيل» (ص. ١٥٧). وفي لقاء في واشنطن، في ٣٠ أيلول من العام نفسه، حذّر وزير الخارجيّة اللبنانيّ فيليب تقلا نظيره الأميركي كيسنجر، من أن التدخّل العسكري السوري قد يكون في لحظة ما «الحلّ للقيادة اللبنانيّة الضعيفة» (ص. ٤١ من أطروحة غير برغسون هوز. وقد تكون إشارة تقلا إلى الرئيس اللبناني). ورأى تقلا أن التدخّل الإسرائيلي في لبنان سيضرّ بالاستقرار في لبنان والشرق الأوسط، فأجابه كيسنجر بأن أميركا طلبت من إسرائيل البقاء خارج لبنان. لكن الوزير الأميركي حذّر من تدخّل سوري في لبنان، وقال إنه لا يمكن ضبط إسرائيل إلاّ في حالة عدم التدخّل السوري. ويذكر ستوكر ان كيسنجر أبلغ تقلا (طالباً الحفاظ على السريّة) أن ألون وعد بأن إسرائيل «لن تتدخّل إذا لم تتدخّل سوريا». وفي خريف العام نفسه، لخّص كيسنجر موقفه من الحرب اللبنانيّة بالقول: «بالنسبة إلى لبنان، ليس لدينا أي شيء نقترحه»، أي هي وصفة الاستمرار بالحرب.
وطالب قائد الجيش اللبناني حنّا سعيد بتدخّل الحكومة الأميركيّة، واقترح على السفير غودلي حثّ الحكومات الكويتيّة والسعوديّة والمصريّة للضغط على سوريا لوقف تدفّق السلاح إلى لبنان. أما خليل أبو حمد، الذي ورد ذكره سابقاً في صدد إبلاغ الحكومة الأميركيّة عن مفاوضات سريّة بين لبنان والعدوّ الإسرائيلي في بداية عهد فرنجية، فقد اقترح على الحكومة الأميركيّة «مساعدة تلك القوى بين اللبنانيّين التي تسعى إلى الحفاظ على المجتمع الليبرالي الموالي للغرب في لبنان»، في إشارة إلى الميليشيات الانعزاليّة. لكن ستوكر يذكر ان السفارة في بيروت عارضت ذلك. وكان الجميل وشمعون لا يزالان يأملان بتدخّل أميركي في لبنان.
وفي تشرين الأول عام ١٩٧٥، وبعد احتدام المعارك، عقدت «مجموعة العمليّات الخاصّة» في البيت الأبيض اجتماعاً لإجراء مراجعة رسميّة للموقف الأميركي من الحرب في لبنان. واستمرّت الاجتماعات على مدار ثلاثة أيّام. وكانت إدارة فورد قلقة من احتمال تدخّل سوري في لبنان قد يؤدّي إلى تدخّل إسرائيلي مقابل. ويقول ستوكر (المُتحفّظ عادة في توصيف الموقف الأميركي) ان القلق الأميركي كان فقط إزاء التدخّلات الخارجيّة وليس حول «الموت والدمار في لبنان» (ص. ١٥٨). لا بل أن كسينجر كان صريحاً في قوله في الاجتماع ان «الهم الأميركي الأساسي لا يكمن في التوصّل إلى حل للمشاكل اللبنانيّة الداخليّة بحدّ ذاتها، بل في منع التدخّلات الخارجيّة» (غير الأميركيّة طبعاً) التي قد تؤدّي إلى حرب شرق أوسطيّة.
(يتبع)