لم يكن نيل بوب ديلن لـ "نوبل" متوقّعاً، لكن لماذا نهتم بما تقرّره ذائقة لجنة للرجل الأبيض في بلدة غربية؟ مَن سمعَ بسفيلتانا ألكسيفيش التي نالت الجائزة عام ٢٠١٥ لأسباب سياسيّة محضة؟ جلّ ما تقرّره هذه اللجان في مجال نوبل الآداب، قائم على ترجمات عن لغات محليّة. وعليه، فإن بعض الكتّاب اللبنانيّين، مثلاً، ممن لم يسمع بهم أحد في العالم العربي، تُرجِموا إلى لغات غربيّة، فيما لم تُترجم (معظم أو كل) كتب العقّاد والمازني وطه حسين والجواهري والسيّاب والحكيم ونعيمه وغيرهم ممّن أثروا الأدب العربي. لكن لجنة نوبل للآداب هي بنفس مصداقيّة لجنة نوبل للسلام، أو بنفس مصداقيّة لجنة "بوكر" العربيّة. لكن ديلن يستحقّ تقديراً عالميّا لا شك، فقلّة من المغنّين وكتّاب الأغاني، استطاعت النفاذ إلى قلوب وعقول الملايين في بقع مختلفة في العالم. حتى في اليابان، لديلن ملايين المعجبين والمعجبات. كانت أغاني ديلن تصلنا في سنوات الحرب الأهليّة في لبنان وتعبّر عن تطلّعاتنا، لا أدري لماذا. كما أنّها وصلت إلى ملايين الشباب في مرحلة الستينيات في دول الغرب. لكن ديلن هو مثل أوباما، بمعنى أنّ الاثنين لا يعبّران حقيقة عن تطلّعات شبابيّة، ولا يحملان آمالاً ثوريّة محدّدة بالتغيير. على العكس، كلاهما أقرب إلى المحافظة والإصلاح الليبرالي الطفيف في المجتمع، لكن الناس يبنون عليهما (بطرق مختلفة وبدرجات مختلفة) آمالاً وتطلّعات ـــ أقرب إلى الأوهام ـــ يملكونها هم وينشرونها على شخصهما.
دافع في أغنية «بلطجي المحلّة» عن جرائم إسرائيل

روت المغنيّة الأميركيّة جون بايز، عن صديقها السابق، بأنّها كانت مثل غيرها تريد منه أن يجول مثلها على المظاهرات والحملات الشعبيّة ضد الحرب في فيتنام وضد جرائم الدولة الأميركية. لكنه لم يكن في هذا الوارد أبداً. على العكس، فإن ديلن الذي بدأ حياته الفنية في سياق ما يُسمّى هنا بــ "الغناء الشعبي" ("فوك سنغنغ")، سرعان ما افترق عن هذا السياق الذي اتخذ منحى سياسيّاً يساريّاً واضحاً (مثل أغاني بايز التي غنّت لـ "ساكو وفنزيتي" أو فرقة "بيتر وبول وماري"، أو "وودي غثري" الذي أثّر على ديلن في بداياته وغنّى للطبقة العاملة وضد الفاشيّة). لم يكن هذا في وارد ديلن، الذي حمل الغيتار الكهربائي في منتصف الستينيات تسجيلاً لموقف موسيقي، ممّا خيّب آمال رفاقه السابقين الذين اعتبروا حمله للكهربائي خيانة.
لا شك في أنّ ديلن كان شاعراً، وقريحته الشعرية في الستينيات والسبعينيات غزيرةً وفريدةً وبديعة. لم يكن يكتب الأغاني مثل غيره (حاول غيره تقليده فيما بعد، وفشل. لا ترتقي كلمات أغاني بروس سبرنغستين، مثلاً، إلى مصاف أشعار ديلن). لكن القريحة الشعريّة توقّفت في السبعينيات. هو اعترف بذلك في مقابلة مع برنامج "ستون دقيقة"، مع أنّ الأمر كان واضحاً لمن كان يتابع مسيرته الغنائية. شرح ما حدث قائلاً بأنّ الشعر كان يتدفّق من قلمه، ثم توقّف، ولم يعد بمقدوره الإنتاج كما في السابق. هو لا يزال يجول في حفلات حول العالم، لكنه لا يفعل إلا غناء القديم الذي لا يزال يُسرّ جيلاً سابقاً.
لكن أشعار ديلن حتى في مرحلة غنائه الغزير، كانت محدودة الأفق سياسيّاً. في أشهر اغانيه، يخاطب أعضاء الكونغرس الأميركي بالقول في أغنية "الزمن الذي يتغيّرون فيه": "تعالوا ولبّوا النداء، يا أعضاء مجلس النوّاب ومجلس الشيوخ". ليس في هذا النداء ثوريّة، بل دعوة لانضمام النخبة إلى صفوف الشباب الثائر في حينه، أي أنّ أفق ديلن السياسي كان محدوداً وأقرب إلى المحافظة.
وشكّل ديلن في موهبته البديعة تحديّاً لنا كعرب. كيف نُعجب بمغنّ علِمنا بعد اكتشافه أنه صهيوني؟ وهذا الذي ابتعد عن حركات سياسيّة في بلاده، اقترب عبر السنوات من جرائم إسرائيل وتجاهل في ٢٠١١ دعوات من حركة المقاطعة لإلغاء حفلاته في الكيان الاسرائيلي الغاصب. على العكس. فإن ديلن (عاد إلى يهوديّته في أوائل السبعينيات قبل أن يعتنق المسيحيّة لاحقاً ويبقى عليها) اهتم بالصهيونيّة وتقارب مع تيّاراتها الأكثر تطرّفاً وعنصريّة. وهو نفى أن يكون قد تبرّع لـ "رابطة الدفاع اليهوديّة" الفاشيّة التي رئسها مئير كاهان، لكنه تبرّع لدولة العدوّ، وقال عن كاهان إنه "رجل صادق" وقال إنه عرف كيف يعمل.
لكن صفاقة ديلن بلغت ذروتها بعد اجتياح ١٩٨٢، عندما ناصر ديلن مجازر العدو، وكتب أغنية "بلطجي المحلّة" في الدفاع عن جرائم حرب إسرائيل. وتضمّنت الأغنية الكليشيهات الدعائية المعتادة للصهيونية. وعن الحق الفلسطيني، يقول في ألبوم "الكفّار" إن الفلسطيني "يزعم" أنّ الإسرائيلي يقطن على ارضه. الحق يتحوّل إلى زعم عند الصهاينة!
هل تنفي موهبة لأعدائك؟ لا تستطيع طبعاً، لكن يمكن لك أن تتمتّع بموهبة فنيّة أو شعرية من دون أن تسهم في دعمها، إذا استطعت. انتابتني تلك المشاعر عندما قدمتُ إلى أميركا وكان بوب ديلن من الغناء الأميركي القليل الذي أعجبتُ به واستمعتُ إليه قبل مغادرتي لبنان. لا يمكن أن تحضر حفلات مَن كتب قصيدة "بلطجي المحلّة" الصفيقة. ومَن يريد أن يراه وجهاً لوجه، حتى لو أعجبَ به في سنوات الصبا. لكن فوز ديلن يعني، في جانب منه، أنّ أدونيس لم يفز بـ "نوبل" (كان الماغوط يقول عن أدونيس "بدّو نوبل"). لعلّ آمال نزار فرنسيس قد تعزّزت.