"عليكم أن تتحركوا في شرايين النظام من دون أن يلاحظ أحدٌ وجودكم، حتى تصلوا الى كل مراكز السلطة. لو قام (الأنصار) بعملٍ قبل أوانه، فلسوف يسحق العالم رؤوسهم، وسيعاني المسلمون من تجربة كتجربة الجزائر. سوف يستجلبون كارثةً كالتي حصلت في سوريا عام 1982، أو كالكوارث والمحن التي تقع كل سنة في مصر. الوقت ليس مناسباً بعد... عليكم التريث الى حينٍ تستحوذون فيه على كل سلطات الدولة، وتكون قد أصبحت فيه سلطة المؤسسات الدستورية التركية بكاملها الى جانبكم. لقد عبّرت لكم الآن عن مشاعري وأفكاري ــــ وهذا كلامٌ يبقى بيننا... وأنا واثقٌ من ولائكم وسرّيتكم. أنا أعلم أنكم حين تخرجون من هذا المكان، فستطرحون الأفكار التي سمعتموها هنا جانباً، كما تتخلصون من علبة العصير الفارغة". (من تسجيل فيديو مسرّب يتوجه فيه فتح الله غولن الى أنصاره)

"إن سياسة توجيه تطوّر الإسلام، ومساعدة (هؤلاء المسلمين) ضد أعدائنا قد نجحت بشكلٍ رائع في أفغانستان ضد الرّوس. يجب أن تستخدم العقيدة نفسها من أجل زعزعة ما تبقى من القوة الروسية، وبشكلٍ خاص لمواجهة النفوذ الصيني في وسط آسيا".
(غراهام فولر: مسؤول سابق في المخابرات الأميركية)



في تركيا نوعان من الشبكات الخفية، غير الرسمية، يعتبرها العديد من الأتراك محورية في السياسة والمجتمع ولكنها تعمل خلف الكواليس، وغالباً ما يتكلّمون عنها بمزيجٍ من الوقائع والأسطرة، وهي الشبكات الدينية الصوفية، ومفهوم "الدولة العميقة".
جذور التصوّف ضاربة في الأناضول. أكثر المدارس الصوفية السنّيّة لها وجودٌ في تركيا، والتديّن العلوي البكتاشي لا يُمارس عبر سلطةٍ مركزية، بل عبر عشرات التيارات والشخصيات والمدارس المحليّة. تُنسج العديد من الروايات حول الشبكات التي تنشئها تنظيماتٌ صوفية داخل المجتمع، على شاكلة مؤسسات خيرية، ومدارس، وأعضاء يدفعون قسماً من مداخيلهم للتنظيم، ويساعدون بعضهم بعضاً للتقدّم في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وينشئون التكتلات داخل البيروقراطية ومصالح تجارية الخ... في المخيال الشعبي، هذه الجمعيات هي من النوع الذي يمكن أن "يتبناك" وينشئك إن كنت يتيماً فقيراً، فيسلّمك الى عائلة من المناصرين تهتم بك، ثم يرسلك الى مدرسة داخلية، ثم الى الجامعة، ويساعدك لكي تحوز على وظيفة ومركزٍ متقدّم. وبعد عشرين عاماً، قد يُطرق باب منزلك في الليل لتفتحه وتجد "أخاً" من الجمعية واقفاً ومعه ولدٌ صغير، يسلّمك اياه لكي تهتم به.
أمّا "الدولة العميقة" فهي تعني ــــ في السياق التركي ــــ قناعةً بأنّ هناك مجموعاتٍ وتكتّلاتٍ سرية داخل السلطة، لها ولاءاتها وأجنداتها الخاصة بها، وهي تعمل وتؤثّر على الأحداث من دون علم السلطات المنتخبة وعموم الشعب. يقوم أردوغان حالياً بتصفية مناصري غولن بدعوى أنهم "دولة عميقة"، وقد تمّ إقصاء الضباط الأتاتوركيين في الجيش (منذ عام 2007) تحت الشعار نفسه، وتحصل في تركيا باستمرار أحداثٌ وفضائح تؤكّد قناعة الناس بوجود مثل هذه المجموعات التآمرية (على سبيل المثال، عام 1996، كشف حادث سيارة عن وجود الشخصيات التالية معاً في عربةٍ واحدة: نائب برلماني كردي، زعيم عصابة مافيا وقومي تركي متطرّف، قائد في جهاز الشرطة، وملكة جمال تركية؛ لا أحد تمكّن من تقديم تفسيرٍ لوجود هؤلاء الناس معاً غير "الدولة العميقة" وحبائلها). وقبيل انطلاق حملة "أرغنيكون" ضدّ الضباط الكماليين، يقول الأكاديمي مايكل رينولدز، بثّت قنوات تلفزيونية موالية لغولن مسلسلاً شعبياً تحت عنوان "صقيع شباط" يوصّف مجموعة شيطانية تتحكم بجهاز الدولة، مكونة من تحالف بين ضباط علمانيين ومسؤولين فاسدين وزعماء عصابات، ويعتبر رينولدز أن المسلسل كان "توطئة" لمحاكمات "ارغنيكون"، وتحضيراً للرأي العام حتى يتقبّل الاتهامات التي سيسوقها الادّعاء.
بحسب بحثٍ نشر حديثاً عن جماعة غولن كتبه رينولدز (وهو استاذٌ في معهد دراسات الشرق الأدنى في برنستون؛ والمعهد، بالمناسبة، معروفٌ تقليدياً بعلاقاته مع الدولة التركية، وتقرّب العديد من أساتذته، وأشهرهم برنارد لويس، من أجهزتها)، فإنّ قصّة انقلاب تمّوز لا بدّ أن تُقرأ من زاوية "الدولة العميقة" والشبكة الصوفية، وكصراعٍ بين اسلاميين ابتدأ عام 2012 وكانت محاولة الإنقلاب باكورته. هل كان الانقلاب جدياً؟ يجيب راينولدز بالتأكيد، وهو كان منظّماً وعنيفاً، ويصدّق على نظرية وجود "دولة عميقة" في تركيا. هل تورّطت به جماعة غولن؟ يقول رينولدز إن ذلك لا شكّ فيه (الضباط الكماليون لم يكونوا جزءاً من المجموعة الانقلابية، وقد رفض رئيس أركان الجيش، بإصرار، أي تعاونٍ معهم، والّا لأخذت الأمور مساراً مختلفاً). هل كلّ من تجري ملاحقتهم واعتقالهم وطردهم من وظائفهم اليوم كانوا متورّطين في الانقلاب؟ هنا الإجابة هي بالنفي، ولو كان كلّ من عوقب بعد الانقلاب (100 الف بحسب رينولدز، وأكثر من مليون تركي بحسب ادعاءات زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض) قد شارك فيه فعلاً، فنحن هنا لسنا أمام "زمرة انقلابية"، بل أمام حركة شعبية.

شيخ بنسلفانيا

يروي رينولدز أنّ دعوة فتح الله غولن (أو "خوجة أفندي" كما يسميه مريدوه) قامت ــــ منذ انطلاقها في الستينيات في مدينة إزمير ــــ على دعامتين: رجال الأعمال والمدارس. كان غولن يدعو الشباب الذين يستقطبهم الى التوجّه للتعليم، ولأن يكونوا مثالاً يؤثّر في أجيالٍ من التلاميذ، وكان يطلب من مريديه الأثرياء أن يستثمروا أرباحهم في بناء المدارس والمؤسسات التعليمية. بتوصيف رينولدز، يبدو أسلوب غولن في الخطابة والدعوة أقرب الى اسلوب عمرو خالد منه الى نمط المشايخ المتطرفين الناريّين، فهو يتكلّم بهدوء ويعتمد على التأثير العاطفي بدلاً من الزجر، وكثيراً ما يبكي خشوعاً خلال محاضراته. وقد ناسب هذا الشكل من التدين، الذي يركّز على الروحانية والخدمة الاجتماعية، الطبقات الصاعدة في تركيا الحديثة.
أعطى العهد النيوليبرالي في تركيا أهمية جديدة لمشاريع تعاضدية خاصّة كجمعيات غولن، مع اختفاء المُثل الجمهورية، شبه ــــ الاشتراكية، التي طبعت الدولة حتى عهد أوزال، وكانت تربط المواطن وحقوقه بالدولة مباشرة. كما أن الترخيص للجامعات الخاصة وتحوّل جامعات جديدة على النمط الأميركي، كـ"بيلكنت" و"كوتش"، الى حاضنات لنخبة جديدة قد جعل من جمعيات غولن محجّة للطلاب الطموحين (جزء أساسي من عمل مؤسسات غولن كان يتمحور حول تحضير الطلاب لدخول الجامعات النخبوية، وتدريبهم على اجتياز امتحانات القبول، وقد جرت شائعات عن استخدام الغش، أو تسريب أسئلة الامتحانات مسبقاً، لوضع أنصار غولن في مراكز تفضيلية).
هكذا بنى غولن شبكةً من أكثر من ألف مدرسة حول العالم، يخدمها جيشٌ من المتطوّعين المخلصين (حتى في اميركا، تعتبر مدارس غولن، التي تورطت في مشاكل قانونية، من أفضل المدارس الخاصة من حيث مستواها الأكاديمي، ويذكر رينولدز أن مدارسه في اميركا تستحوذ سنوياً على أكثر من نصف مليار دولارٍ دعماً من الحكومة). وقد بنى "الغولنيون" امبراطورية في تركيا، وصلت الى الإعلام والثقافة ــــ صحيفة "زمان"، مثلاً، تتبع لغولن. وهم يتحكمون برساميل تجارية تساوي عشرات مليارات الدولارات. وقد اخترق "الغولنيون"، منذ زمنٍ بعيد، الدولة في عمقها ــــ منذ عام 1986، كشف الجيش التركي عن محاولة لإدخال العشرات من مريدي غولن الى مدرسة الضباط، وقد طُلب منهم التظاهر بعدم التديّن حتّى يتخرّجوا، وأن "يُصلّوا بعيونهم".
هناك عنصرٌ آخر محوريّ في قصّة غولن، وهو علاقة الداعية الاسلامي بالغرب. كلّ التيارات السياسية في تركيا، يقول رينولدز، يتخلّلها تيارٌ يعتبره المسؤولون الأميركيون "معادياً لأميركا". في ثقافة كلّ المعسكرات التركية، من الاسلاميين الى الأتاتوركيين، تشكيكٌ بالحليف الأميركي، وإن من منطلق قومي استقلالي يرى تركيا "دولة عظمى"، ولا يرتاح الى العلاقة غير المتكافئة مع امبراطورية حقيقية، تنظر اليهم كحليفٍ ثانوي. أمّا غولن، فقد مثّل حركةً اجتماعية ودينيّة متصالحة بالكامل، وعلى كل المستويات، مع الغرب واميركا واسرائيل. غولن غير واضحٍ في توصيف مواقفه، بل انّ تنظيمه لم يمتلك اسماً رسمياً لفترة طويلة، ولا أحد يعرف ما يبطنه. هو يدّعي لعقودٍ، مثلاً، ان جمعيته غير سياسية ولا تهمها السلطة، ثم يعترف، منذ سنوات، بأنه يخطط للاستيلاء على الدولة التركية منذ أن كان في العشرين من العمر. غير أنّ العنصر الوحيد الثابت في فكر غولن هو "الاعتدال" ومناصرة الغرب، ورفض المواجهة مع اسرائيل. وجود تيّارٍ اسلاميّ من هذا النمط، يضمّ أكثر من خمسة ملايين مريد ويتوسّع باستمرار، التقطته دوائر في الحكومة الأميركية. حين قدّم فتح الله غولن طلباً للإقامة في أميركا، بعد أن انتقل اليها عام 1999 ليستقرّ في عقارٍ كبيرٍ في ولاية بنسلفانيا (هو لم يعد الى تركيا مذّاك، حتى بعد استلام الاسلاميين للسلطة ودخوله حليفاً فيها)، دعمت طلبه ثلاث شخصيات حكومية سابقة: مورتون ابراموفيتز، السفير الأميركي السابق في أنقرة، وضابطان رفيعان في الاستخبارات الأميركية هما غراهام فولر وجورج فيداس.
(يتبع)