شيء من الوقت

  • 0
  • ض
  • ض

كان "أبو فايز" أو غسّان كنفاني أمراً مختلفاً. كان مختلفاً في كل شيء، الرجل الذي حينما أراد الزواج قال لزوجته المستقبلية: أنا لست أملك مالاً، وأعمل في السياسة وحياتي على كف عفريت، وفوق كل هذا معي "السكري".

المناضل الذي تركت رئيسة وزراء العدو غولدا مائير كل شيء خلفها من أجل أن تضعه على قائمة الاغتيالات رداً على عملية "ميونخ" (أسميت القائمة بقائمة غولدا لاغتيال من اعتبرتهم مسؤولين عن العملية) مع أنَّه للعلم لم يكن لكنفاني أي يدٍ في العملية (إذ إن منظمة أيلول الأسود التابعة لحركة فتح بشكلٍ أو بآخر هي من خططت ونفذّت العملية) لكن مائير كانت تعلم ما لتأثير كاتبٍ واحدٍ بحجم كنفاني على وجود الكيان العبري.
لم يكن في كنفاني ما هو عاديٌ أبداً، كان الجميع يعلم بأن كنفاني بعد أن يأخذ إبرة الأنسولين يحتاج الى النوم ساعتين أو ثلاث ساعات، لأن مرض السكري كان يستهلك طاقته بشكلٍ كامل، من هنا فإنَّه كان من الطبيعي أن يغيب في تلك الساعات، إلا أنه لطالما فاجأ الجميع بأن يعود قبل الساعات الثلاث تلك وبأشواطٍ طويلة. كان يعمل كثيراً حتى إنه مثلاً كتب أكثر من 29 كتاباً في أعوامه القليلة إذ عاش أقل من 36 عاماً (ولد في عكا في 8 ابريل 1936 واستشهد في 8 يوليو 1972 في بيروت). كان الرجل مسكوناً بالوقت أكثر من أي شيءٍ آخر، كان "ملحوقاً" به، يعرف بأن جسده لا بد سيخذله في لحظةٍ ما، سيجعله "ضعيفاً" أو واهناً، لذلك أكثر من الكتابة، فكتب هنا وهناك، وبأسماءٍ مستعارة (كتب كأبو فايز في المحرر مذكراتٍ يومية ساخرة، وكتب كفارس فارس في الأنوار نقداً أدبياً وثقافياً، فضلاً عن كتابته باسمه رواياتٍ ومسرحيات ونصوصاً عدّة) ورسم كثيراً حتى في سجنه (سجنته الدولة اللبنانية بعدما كتب نصاً ضد المملكة السعودية وقتها)؛ وحتى حينما لم يكن يملك أوراقاً ثبوتية، وكان مضطراً إلى البقاء في منزله، كتب رائعته "رجال في الشمس". كان الوقت دأبه، وخوفه الدائم. لا ينسى كثيرون أنه في إحدى رسائله لغادة السمّان (ولو أنَّ هناك نقاشاً كبيراً إذا ما كانت تلك الرسائل حقيقية أم لا، ولكن قد يكون بعضها حقيقياً أكثر من بعض)، أشار عليها بأن الوقت لا بد سيسبقهما ويفوز في نهاية المطاف.
في صباه سكن أهله حي المنشية بيافا، المدينة التي أثّرت كثيراً عليه، ولو أنّه في الأصل من عكّا، إلا أن سكنه في ذلك الحي اليافي-الذي يلاصق الأحياء اليهودية في المدينة، والذي شهد أولى الشرارات والصراعات بين السكان الأصليين لفلسطين والمحتلين الصهاينة- جعله يدرك البعد الحقيقي للصراع، فالأمر ليس مجرّد "احتلال ديني" فحسب كما يحاول كثيرون وسمه، بل هو أقرب إلى احتلال فرنسا للجزائر وإن بصيغةٍ أكثر "دموية" و"خيلاء": أي "سكنٌ" و"إقامةٌ" و"احتلال" بمعنى أن يرحل أصحاب الأرض ليسكن أناسٌ آخرون مكانهم تحت حجّة أنهم لم يكونوا هناك أبداً. فهم كنفاني جيداً أهمية الثقافة مدركاً ببساطة أنَّ لعبة الصهاينة تقوم أساساً على "بروباغندا" مؤرخيهم الجدد ومعرفة الآخرين بقضيتهم ولعبة "المحرقة" النازية و"مأساوية" اليهود وقضيتهم. في نفس الوقت تجنّب بكل ما أوتي من قوّة لعبة أغلب المثقفين والكتّاب العرب حين الحديث عن القضية الفلسطينية، فابتعد عن المأساوية و"النواح" غير المناسب للصراع والمقاومة، مؤسساً لأدب المقاومة بشكله المعروف حالياً، إذ يمكن فعلاً نقاش ما إذا كان غسان كنفاني أول كاتبٍ عربي-فلسطيني أرّخ للأدب المقاوم بشكله الحديث الحالي.
وعلى الرغم من سكناه للوقت، إلا أنَّه دأب دوماً على اللعب على الفكرة في كل لحظات حياته، إذ يذكر الشاعر الفلسطيني الكبير عزالدين المناصرة أنَّ كنفاني طلب منه بعد لقاءٍ واحدٍ فحسب أن يكتب في الهدف، وظل المناصرة يكتب فيها حتى استشهد كنفاني ليرثيه بقصيدة شهيرة: "تقبل التعازي أي منفى" مؤكداً أنّ كنفاني كان مشغولاً كل الوقت، وقادراً في الوقت عينه على أن يفرّغ نفسه لسماعك مهما كانت مشكلتك صغيرة وتافهةً حتى. أكثر من هذا كان أسبوعياً يجمع أطفال الحي ليأخذهم إلى السينما لمشاهدة أفلام الكرتون المعروضة هناك، كانت تلك الخطوة الذكية تساهم بشكلٍ أو بآخر في صياغة جيلٍ كان يريده كنفاني "مثقفاً" نهماً للعلم، لذلك كان يجد الوقت –كل الوقت- للقيام به. أما استشهاده؟ فكان خارج حساب الوقت أبداً، إذ لم يكن رغم كل مشاغله واهتماماته السياسية يعتبر الشهادة ستحصل قريباً، لربما هو كان يرى بأنَّ السكر سيفترسه أسرع من "السيارة المفخخة".
كان غسان، أبو فايز، فارس فارس مزيجاً أخاف الوقت وأزعجه، لذلك حينما حل أوان رحيله، جاءه بمفاجأةٍ وعلى عجل، فلم يعط أبداً قليلاً كي يقول لربما كلماته الأخيرة أو ربما كتابه الأخير.

  • من اعمال معتز موعد

    من اعمال معتز موعد

0 تعليق

التعليقات