وجه آخر من الوجوه التي لم أستطع أن أنساها. هنالك وجوه لها مفعول "القنابل العائمة": بمجرد أن تراها، ستنفجر الذكريات في حنايا دماغك، لتعيدك إلى زمن آخر، ذي نكهة أخرى.. كان هو منهم: "خالد".. أحد أهم دروس حياتي في "الاشتراكية" و"العدالة الاجتماعية"!

■ ■ ■


إنه حزيران من عام 2015
بمجرد أن التقت عينانا، وجدنا أرواحنا تدفعنا دفعاً كي نقف أمام بعضنا البعض ونتعانق: كنا، أنا وهو، مشاركين في ملتقى دولي، بمدينة برشلونة، يخص مستقبل الشرق الأوسط، في ظل الرهانات الحالية.
قال لي مُرَحباً: "وينك يا "طويل التيلة"؟! زمان عنك والله! مشتاقلك جداً. ساق الله على أيام المخيم"!
ابتسمتُ أنا الآخر، وأنا أتأمل وجهه النحيل الباسم، قبل أن أرد: "ع قولتك. الله يرحم هاديك الأيام ما أحلاها. انتا شو بتعمل هان؟!".
هاد سؤال بالله؟! هايني هان مشارك معك. زيي زيك!
بعد دقائق، وجدنا أنفسنا نهرب من كل ما حولنا من مظاهر الأبهة والبذخ، في ذلك الفندق الفاخر ذي النجوم الخمسة، الواقع غير بعيد عن ساحة "كاتالونيا"، بوسط المدينة: لقد عدنا فجأة صبيين، جمعهما مخيم واحد في قطاع غزة، ذات يوم..

■ ■ ■


إيه أيها المخيم! سوية شهدنا ذكريات طفولتنا فيك: ملابسنا المهلهلة أنا ورفاق طفولتي في شوارعك. ألعابنا البريئة في حواريك الضيقة، حيثُ كنا نجري فيها، كما تفعل كرات الدم في مسالك الأوردة. قرقعة المطر على أسطحك المكونة من "الإسبست" و"الزينكو" التي استكان تحتها بؤسنا وأحلامنا في ذلك الوقت، تلك الأسطح التي تحول بيوتنا إلى أفران تشوينا شياً بفعل الصيف. كم كنتُ أتلذذ بالتهام القليل من العجين الذي كنتُ آخذه من كل عجنة خبز تقوم بها أمي، لأخرج بعدها إلى الشارع مسرعاً، وصوتها يطاردني: "ولك مش منيح العجين لبطنك!". نبحث عن مكان به اتساع يستوعبنا، لنرسم على الأرض مثلثاً تتراص داخله الكرات الزجاجية الصغيرة التي كنا نسميها "القلول"، حيثُ كان كل منا يساهم بعدد معين منها، قبل أن يبتعد أحدنا راسماً خطاً صغيراً، ومن ثم ليخرج أحدها، مسدداً به نحو المثلث، ونحن نسأله قبلها: "حَب والا راس؟!". تتعالى نداءات أشقائنا للتذكير بأن موعد أذان المغرب قد حل، وينبغي أن نكون بالمنزل، لننطلق إلى بيوتنا ركضاً. كنا لا نستطيع اللعب ليلاً، إلا في شهر رمضان فقط، حيثُ كان كل واحد منا يختلس شيئاً من "السلك الناعم" المخصص لأعمال الجلي وتنظيف الأواني المعدنية، لينطلق بعدها إلى الشارع، فيشعلها هناك وهو يدورها كالمروحة، مضيئة كأنها ألف نجمة، ناثرة حولنا صيحات الفرح والبهجة، لتنطفئ تلك النجوم بعدها بثوان، قبل أن نحاول إعادة الكرة من جديد. يوقظنا النهار في اليوم التالي، مذكراً إيانا بضرورة الانطلاق إلى مقاعد الدراسة، مرتدين زينا المكون من القمصان الزرقاء وسراويل الجينز.


■ ■ ■


كان اسم مدير مدرستنا في ذلك الوقت "جبريل"، إلا أننا قررنا أن نسميه فيما بيننا "عزرائيل"، بسبب شدته وقسوته معنا، وكان أكثرنا نيلاً لقسوته هو "خالد": كان وقتها أكثر أبناء مخيمنا بؤساً، بحكم أنه الطفل الرابع بين ستة أطفال أيتام، تنفق عليهم أمهم التي كانت تتولى أعمال الخياطة كي تنفق عليهم. في ذلك العام الدراسي من المرحلة الإعدادية، حل "خالد"، ذلك الفتى الممتلئ حيوية، "ضيفاً دائماً" على صفوف المعاقبين يومياً لدى "عزرائيل"، والسبب معروف: لم تتمكن أمه من توفير الزي المدرسي له لهذا العام، بعد أن ضاق به قميص العام الماضي، ولم يكن هنالك من يستطيع أن يوفر له قميصاً آخر، حتى لو كان مستعملاً. بقي الأمر كذلك لأسابيع طويلة، قبل أن يقرر "عزرائيل" قراره الصارم: لا دخول لـ"خالد" إلى مدرستنا قبل أن يجلب زياً جديداً، فيما كانت عِزة نفس "خالد" تمنعه من أن يخبره بوضع أسرته. كانت أزمة حقيقية بكل تأكيد. ظل خالد يتظاهر أمام أمه المسكينة لأيام بأنه يذهب إلى المدرسة كل صباح، ليعود في موعد أوبته المعتاد إلى البيت، ولكن: سيبقى على هذا الحال إلى متى؟ كنا نحن أفراد صفه الدراسي نشاهد مأساته ونفكر: ماذا نفعل؟ لقد بحثنا له عن قميص مدرسي مستعمل في تلك الفترة، فلم نجد. كان "خالد" تعس الحظ، لدرجة أنه لو أراد الذهاب إلى البحر، لوجد أنه قد تبخر! كما أن الأزياء المدرسية آنذاك كانت غالية بسبب احتكار التجار، في ظل موسم الدخول الدراسي الذي يشكل ربحاً طيباً لهم. ما العمل إذن؟ برز الحل فجأة عند زميلنا "علي": "لازم احنا اللي نشتري الزي لـ"خالد"! ". بدا لنا ساعتها وكأن "علي" قد جُن: من أين لنا أن نشتري نحن الزي؟! إن هنالك الكثيرين منا لا يتلقون مصروفاً أصلاً بسبب البؤس المطبق على خناقهم بكلتا يديه، فيما كان البقية يوفرون مصروفهم الضئيل كي يشتروا به لعبة ما أو أي شيء آخر يرغبون بشرائه، مستعيضين عن شراء "السندويشات" في "كانتين" المدرسة، بسندويشات "الزعتر والزيت"، وأحياناً الفلفل الأحمر وحده! لكن "علي"-الذي كان قائدنا غير المُعلن- لم ييأس: سرعان ما قررنا التكاتف معه سوية، وشرعنا نجمع القليل الذي ندخره من مصروفنا. لم يكف ذلك المبلغ الهزيل بالطبع، لننطلق في حملة تبرعات شاملة: لم تتوقف على صفنا أو مرحلتنا الدراسية وحدها، بل شارك بها طلاب المدرسة بأكملها، بعد أن قررنا لا أن نوفر قميصاً جديداً لـ"خالد" فحسب، بل ومع حذاء وسروال جينز جديدين أيضاً! لأول مرة أدركنا معنى "قوتنا الجماعية": لقد اتخذنا القرار بأنفسنا، ولم يؤثر علينا أي أستاذ كي نقوم بما نفعله، بل بدأت المسألة باقتراح من "علي" لتصل إلى ما وصلت إليه. بعد أسبوع من انتهاء حملتنا، كان المبلغ الذي أردناه جاهزاً. ذهبنا إلى أحد أصحاب محلات بيع الأزياء المدرسية، واستطعنا شراء الزي منه بسعر مخفض، بعد أن حاولنا تقدير حجم القميص المدرسي بأن يكون أكبر من حجم قوام "خالد" بـ"نمرتين" (مقاسين) على الأقل، كي يكفيه لأطول فترة ممكنة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لسروال الجينز. كما تمكنا من شراء حذاء جديد وجميل، راعينا أن يكون أكبر من مقاس رجله بـ"نمرة" واحدة، لذات السبب.


■ ■ ■


لكن "المهمة المستحيلة" التي بدا لنا وقتها وكأن "توم كروز" بـ"جلالة قدره" سيعجز عن القيام بها هي: كيف يمكننا أن نوصل إليه ما اشتريناه؟! كنا قد أخفينا عن "خالد" وقتها "حملتنا الخيرية"، كي لا نمسّ كرامته، وذلك بناء على اقتراح من "علي أبو العُريف". والآن: ماذا نفعل؟! تفضل وحلها يا "أبو العُريف"! كان اقتراحه أن يقوم اثنان بطرق باب منزله-منزل "خالد" وليس "علي" بطبيعة الحال!- ليلاً، بعد أن يضعا الملابس والحذاء في كيس بلاستيكي أسود وسميك، يتم إلصاق طابع مدرسي عليه، وقد كتب فيه بدلاً من البيانات المطلوبة (كالاسم والصف الدراسي والمدرسة.. إلخ)، اسم "خالد" الثلاثي ومدرسته ومكان الموضوع الدراسي كلمة "هدية"!
"ماشي الحال! مين بدو ينفذ العملية يا شباب؟!" (كنا وقتها طبعاً زغار و"مصدقين حالنا" وكإنها "عملية فدائية"!). بعد القرعة الورقية- بسبب وجود وفرة في "المتطوعين"!- كان علي أنا وزميلنا "سامح" التنفيذ، مع الحفاظ على "أعلى درجات السرية"!
في تلك الليلة، تابعنا القمر المطل على المخيم، بفضول، وقد كان "شاهد عيان" على تسللنا أنا و"سامح" في جوف الليل، وقد كنتُ أنا حاملاً الكيس الأسود على ظهري، متحاشين أن يرانا أحد، لنصل إلى بيت "خالد" أخيراً، وقد خيل إلينا بأن صوت ضربات قلبينا قد أصبح مسموعاً لكل بيت في المخيم بسبب قوتها. وضعنا الكيس على الباب، ثم بدأنا نطرق الباب بهدوء. لم يفتح أحد. "وبعدين عاد في ها الشغلة"؟! لم يكن هنالك حل بديل عن طرق الباب بقوة شديدة، تعالى بعدها صوت أمه من داخل الدار. هربنا واختبأنا في مكان يسمح لنا بمشاهدتها دون أن ترانا. لكنها لم تفتح الباب! تباً! لعلها كانت خائفة؟! اضطررنا لتكرار الفعل ذاته من جديد، لنسمع هذه المرة صوتها وصوت شقيق "خالد" الأكبر، وليتعالى دبيب خطواتهما من داخل المنزل، فهرعنا إلى مخبئنا: من هناك تأملنا وجهها المنهك وقد جاورها ابنها، وهما يتلفتان يمنة ويسرة بحثاً عن هذا الطارق المزعج، قبل أن يتأملا في استغراب الكيس المستلقي، وهو ينتظر بملل أن يفتحاه ويأخذا ما فيه وينتهي الأمر! تأملا ما كان مكتوباً على الكيس. أخرجا ما في أحشائه من ملابس وفردتي الحذاء، ومن ثم تعالى صرير باب المنزل، قبل أن يُغلق، بعد أن عادا إلى الداخل.
عند العودة، كان بانتظاري "عَلقة بنت حرام"، بعد أن استيقظت أمي على صوت عودتي من الخارج، لتسألني أين كنت، لأجيبها بالصمت المطبق، بحكم أن ما قمنا به "سر"، وأن "الاعتراف خيانة" حتى لو كان من يسألك هي أُمك! أيقظتْ أبي ساعتها، لينهال علي هو بالضرب المبرح، دون أن يتمكن من انتزاع أي اعتراف مني، فيما عرفتُ في اليوم التالي أن "سامح" قد عاد إلى "قاعدته" بسلام!

■ ■ ■


اليوم التالي، كان "يوماً مشهوداً" في تاريخ مدرستنا: دخل "خالد"، بقميصه المدرسي الفضفاض، وسرواله الجديد الذي كان مشدوداً إلى خصره النحيل بحزامه البني العتيق، فيما كان حذاؤه الجديد محشواً بالورق في مقدمته، وهو يتأمل "عزرائيل" بنظرات الانتصار. آه يا "خالد" لو عرفتَ الثمن الذي دفعته أنا كي تزهو بملابسك اليوم! لكنني بقيتُ صامتاً، لأن الأمر "سر"، مثلما اتفقنا. بالطبع، أفلتتْ بعض الألسنة، بعد إلحاح منه، وأخبرته بدورنا جميعاً في شراء ملابسه وحذائه، لكنني لم أفتح فمي بحرف واحد. كان يكفي رؤية نظرات الامتنان التي غمرني بها في تلك الفترة، أنا وبقية زملائي. ومن ثم، تتابعت الأيام، وتفرقت بنا سبل الحياة، قبل أن ألقاه مجدداً في مكان لم أكن أتوقع أن ألقاه فيه البتة، لنعود صبيين من المخيم من جديد.
إيه يا مخيمنا! تأملْنا ملياً: ها أنتَ ذا حي فينا، بأفراحك ومآسيك، حتى لو تنقلنا إلى أقاصي الدنيا!