زيارة..بوكيمون

"العمى... ليه العدلية مسكرة"؟ لم يكن قد تبقى من ركاب طرابلس بيروت إلا أنا، الجالسة بقرب السائق في المقعد الأمامي، وخمسيني من طرابلس، جلس خلف السائق العكاري، وبدا أنه صديقه. كانت الطريق فارغة تقريباً باتجاه بيروت، في حين أن الاتجاه المعاكس الذاهب الى الشمال كان مكتظاً بسيارات المواطنين الزاحفين الى قراهم في عطلة الفصح الغربي.
"شو يا حاج؟" يسأل السائق صديقه في الخلف. فيجيبه "ع أساس وصلنا! شه! بَلْكَت شي حودث (يقصد حادث باللهجة الطرابلسية)". لكن السائق قال: "لا لا يا حاج. ما شكلو هيك"! الراكب مستدركاً: "العمى صحي (يقصد صحيح) يمكن ميشان يمرق هيدا شو اسمو؟ تبعين الأمم المتحدة..".
السائق: "يييه! صحي... الله يلعن هالحظ! أكيد قوطعين الطرقان ميشان بوكيمون".

الراكب ضاحكاً: بوكيمون؟ معقول راسك؟... اسمو بان كي مون (يضحك) هيداكي تبعين افلام الكرتون. الله يسامحك".
خمس دقائق ونحن متوقفون خلف طابور السيارات، إلا أن السائق قال فجأة: "وبعدين؟ شو منضل مزروبين؟ والله ما لح انطر" (لن انتظر). قالها ولف المقود عائداً بضعة أمتار ليسلك طريقاً فرعية ويدخل في زاروب معتم خلف الفوروم دي بيروت.
كان القمر بدراً، والساعة قاربت التاسعة مساء، والزاروب ضّيق زاده ضيقاً صف من الشاحنات الضخمة ركنت إلى يمينه، تاركة مسرباً بالكاد يكفي لمرور سيارة.
حدث كل شيء في ثانيتين. أقبلت من الاتجاه المعاكس سيارة كان سائقها ينظر الى فوق بدلاً من النظر أمامه... ليس الى القمر، بل ناحية صف الشاحنات الضخمة التي كانت مركونة هناك مطفأة الأضواء كأنها حيوانات خرافية تنتظر كلمة السر لتستفيق. وكما كل سائقي المناطق التي لا قانون فيها ولا رقابة علي الطرقات، كان سائقنا مدرباً على ردة فعل سريعة. هكذا أخذ يصرخ بالسائق الآتي من الجهة المقابلة.
-وليييييييي.. اتطلع قداااااااامك (سكرااااتش ..بج ..طع) الله لا يوفقك... العمى بعيونك. كانت السيارة قد ارتطمت بنا "مسحاً" على يسارنا. فتح سائقنا بابه بغضب بالغ، ونزل الى.. المشكل.
كان السائق الآخر لا يزال في سيارته وهو يحاول تهدئة صاحبنا؟
-ما صار شي خيي، وحياة العدرا ما صار شي... شوية دهان يا زلمة!
-ولي العمل (العمى) بعيونك... وين عم تتطلع؟ وين؟ وأنا عم ضويلك وطفيلك ما قاشعني قد الجحش قدامك؟
-وك روق يا زلمي والله ما صار شي. انجق جلف الدهان.
-شو جلف الدهان؟ بس هيك... معقول انت؟
-والله معك حق... بس ما صار شي. كنت عم شوف إذا في حدا بالشاحنة وما انتبهت.
-شو امرتني؟ ما انتبهت؟ انت وعم تسوق؟ انزل وله...
يا الله. قلت في نفسي: دبكت! في هذه اللحظة سمعنا صوتاً يقول: "مخول.. شو عم يصير معك؟" قفز شاب مربوع بفانلة بيضاء وأوشام مختلفة من الشاحنة التي كان السائق المعاكس ينظر اليها. بدت تلك الصيحة كأنها إعلان "نحن هنا" موجهة ضد سائقنا العكاري. ولهذا، ما كان من "الحج" الطرابلسي إلا أن قفز بدوره من مكانه لنجدة صديقه الغاضب.
"صلوا ع النبي يا جماعة. خلينا نشوف.. مبلى ليك طعجتلو الفان شو ما صار شي؟". يقول الحج. كان "مخول" السائق الذي اصطدم بنا معترفاً بذنبه، إلا أن سائقنا بدا كمن يريد ان يشفي غليل غضبه فقط. يحاول مخول تهدئته: "يا خيي عندي خبير بجيبو هلق إذا بدك". فيجيبه صاحبنا: "ايه جيب الخبير... ماني متحرك حتى تجيب الخبير!".
"يا أهلين"، قلت في نفسي. تنبهت فجأة إلى أني فتاة وحيدة بين عدد من الذكور الغاضبين، التاسعة ليلاً في زاروب معتم خلف الكرنتينا، في الفان المتوقف وسط مشكل مرشح للتفاقم! لم أنبس ببنت شفة. لكني أخذت أنظر حولي محاولة تبين مخرج قريب في حال تطور الأمر. بدا صاحب مخول مشكلجياً مثل سائقنا. هكذا تقدم بتحدٍّ منه مستنفراً وقد مدّ رقبته المتشجنة العروق وأرجع كتفيه وذراعيه المفتولتي العضل الى الخلف كالقوس المشدود المعد للانطلاق: "ما تحكي معو هيك وله. (صاح بالسائق العكاري) ارجع . قلتلك بعّد عنو".
لم يتأخر صاحبنا عن الرد بالطريقة ذاتها: "وإذا ما بعدت شو فيك تعمل وله؟ اصلا انت شو دخلك؟".
كانا يتأهبان كالديكة في حين أن الحج ومخول شخصياً أمسكا كل بصديقه لمنعهما من التضارب. "له يا شباب. صلوا ع النبي... صلوا ع النبي". يتدخل رجل أربعيني بدا من لهجته أنه عراقي وأنه يعرف صاحب مخول، ربما كان سائقاً على النقل الخارجي مثله. "صلي ع النبي... يقول لسائقنا وهو يحاول امساك السائق الآخر من ذراعيه من الخلف".
"وإذا ما صليت يعني؟" يسأل سائقنا بتحدٍّ؟ فيفور غضب السائق الآخر ويحاول الهجوم مجدداً "ليك وله، ما تغلط معي احسنلك هه! وحياة الرب بجعل الله ما خلقك". في هذه اللحظة يصل رجلان بدا أنهما من "الأبرشية" أي من أصحاب الشاحنات المتوقفة. صرخ الأول وهو يركض نحونا بلهجة سورية: صلوا ع النبي يا جماعة... شو صاير؟ طولوا بالكن".
لكن، كأنه قال لهما اقتتلا: هجم صاحب مخول فتصدى له سائقنا. وبدأ اشتباك بالأيدي. إلا أن العراقي والسوريين والحج و... مخول شخصياً حاولوا تفريقهما بالقوة عبر دفع كل منهما الى الخلف. في هذه اللحظات تصل من الجهة المقابلة شاحنة زبالة لسوكلين تتهادي في ضوء البدر بحمولتها. وبما أن الهواء كان يهب من تلك الناحية، فقد أضفت الشاحنة لمستها الخاصة على المشهد، خاصة أن طريقها كانت مسدودة بالفان والسيارة. هكذا أطل السائق من عليائه وهو يصيح "في إيه يا جماعة؟" يا أهلا يا أهلا... ها هي جامعة الدول العربية تجتمع في هذا الزاروب.
“خلص يا ابن الله... اطلع قلتلك... وك اطلع!". يصيح مخول بصديقه الذي تحول الى مشكلة بدلاً من أن يكون مساعداً في الحل، رافعاً إياه من قفاه ليدخله شاحنته غصباً عنه.
كان القمر بدراً يضيء المشهد السريالي: طريق معتمة ومنعزلة، مسدودة بفان وسيارة في حالة تصادم، رائحة كميون الزبالة المسدود الطريق تفوح علينا جميعاً، ورعايا بلدان عربية مختلفة يحاولون تهدئة لبنانيين مستنفرين بسبب حادث سير بسيط، لم يخدش فيه أحد إلا جدار الباص، على موسيقى الشتائم من العيار الثقيل.
أمم متحدة خلف الكرنتينا. عزيزي بان كي مون: لو كنت بجانبي في الفان، لاستطعت أن تعبر لمرة، عن قلقك في المكان المناسب.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم