دموع الأطفال الخاسرين

أتسمر مثل كثير من اللبنانيين يوم السبت مساء للحصول على متعة يخالطها عذاب الضمير في الإصغاء لمواهب أطفال مؤثرة، ولمتابعة نموها أو انكسارها نتيجة تصويت الحكام في برنامج «الصوت» على قناة "أم بي سي"،المخصص للأطفال حتى سن الخامسة عشرة.

وأما المتعة، فهي في اكتشاف المواهب التي يعج بها عالمنا، هبة من الله، لا يفرق في إغداقها على عبيده بين عرب أو عجم. أصوات فاجأتنا بظهورها عبر أغان كنا نظن أن الجيل الجديد لا يدري منها شيئاً، بعد عقود من التلوث السمعي والأغاني الهابطة التي وصلت الى حد تلحين الفتن المذهبية و«الشدو» بها، على أسماع الجماهير المهتاجة.
«ما دام تحب بتنكر ليه؟» كيف تجرأت سهيلة، تلك الصغيرة الواقفة على الحد بين الطفولة والمراهقة، على أداء أغنية كهذه لام كلثوم؟ «حلو حلو» التي شدت بها ميرنا حنا، انتزعت الدموع من العيون لذلك اللفظ السليم، ومخارج الحروف، كل ذلك مع هينة في الأداء تذكر بوصف الشاعر ابن الرومي لـ«وحيد المغنية» بقوله «تتغنى كأنها لا تغني»، وشجن ينتزع رعشة من القلب مع كل قاف أو جيم عطشى. وأما عبدالرحيم الحلبي، ابن العشر سنوات، فما أروعه وهو يغني بسهولة ويتلذذ قدوداً من نوع «يا محلا الفسحة» الخ.
هذا في المتعة، وأما عذاب الضمير، فهو آت من قناعة بأنني أشجع بمشاهدتي ومتابعتي للبرنامج، على خطأ يؤدي كل أسبوع ومع كل حلقة، الى أضرار جسيمة تصيب بنية تلك البراعم التي ولدت للتو من الصعب محوها. يشترك في تلك الجريمة ثلاثة أطراف: نحن أولاً، بمتابعتنا، ولنا عذر في المتعة التي نكتشفها في كل حلقة، كتعويض عن صحراء الإبداع الفني التي نتوه فيها منذ عقود، ثم الأهل، الذين جاؤوا بأولادهم الى مسابقة كهذه، غير مبالين بما قد ينتج عن خسارة أطفال في عمرهم الطري، صارفين تفكيرهم الى الفوز فقط وتشجيع أطفالهم عليه، والطرف الثالث والأساس، هو نظام البرنامج نفسه التسابقي لأطفال غير مكتملي النمو، وبلجنة الحكام التي مهما بكى أفرادها وأظهروا تأثراً، إلا أنهم يساهمون بنشاط في توسعة رقعة تلك الأضرار.
حين كنا صغاراً كان هناك برنامج فرنسي شهير اسمه «مدرسة المواهب» (Ecole des fans) كان يقدمه مذيع شهير بلطفه وبتعامله مع الأطفال، جاك مارتين. أدرك مصممو البرنامج الفرنسي، أن التعامل مع الأطفال لا يمكن ان يكون عبر التسابق «الجدي» أي ذاك الذي يؤدي الى خاسر ورابح، فكان التصويت للأطفال أنفسهم أولاً، ثم كانت النتيجة الواحدة تعلن في نهاية كل حلقة بإعلان مارتين أن «الكل ربحوا».
هل يفقه الأهل، وربما فهم بعضهم الآن بعد خروج أبنائهم من المسابقة، ما الذي يعنيه بالنسبة الى طفل أو مراهق أن يتم رفضه أمام ملايين المشاهدين؟ هل يدركون ذلك الشرخ الذي سيسم أرواحهم من الآن حتى نهاية العمر ربما؟
في الحلقات الأولى، أذكر صبياً متوسط الموهبة، جاء على ما أظن من السويداء في سوريا. كان الصبي شديد الثقة بنفسه، وبأنه سيفوز، بان ذلك في المقابلة التي أجروها معه قبل مروره أمام الميكروفون. قال إنه الأول في الصف، وبطل لعبة شطرنج على ما أذكر، وبطل تاكواندو، والأول في أشياء أخرى لم أعد اذكرها اليوم. بدا الصبي وكأنه قرد مدرب على الفوز، حتى أن ثقته بنفسه بدت غروراً صرفاً، جعل من سمعه بعد ذلك، يكاد يسر لأنه خرج من المسابقة.
فالمقياس هنا هو الموهبة وليس «الشطارة» والاجتهاد بالدرس. هي بالتأكيد لعبة أخرى غير تلك التي درب على ربحها. إلا أن الخسارة أعادت للصغير طفولته. فبدا طفلاً بائساً لا يملك أمام الخسارة التي يتذوقها للمرة الأولى، الا دموع طفل لا يعرف كيف خسر ولماذا؟ ولا كيف يربح مسابقة كهذه. ربما سيدرك هذا الصبي أن منطق البرنامج نفسه خطأ، فيكون له في ذلك بعض العزاء. فليس هناك شيء اسمه «الصوت الأحلى» بين أصوات ما زالت في طور النمو. فهذا النوع من الأصوات عليه أن يكتمل ليباري وينافس، ولكن مع أصوات شبيهة. يعني هناك أم كلثوم في نوع من الأصوات، وهي قمة فيه، وهناك فيروز، في نوع آخر وهي قمة فيه، وهناك أسمهان في نوع ثالث، وهي قمة فيه، وهكذا دواليك. فكيف نختار لو حصل، بين ثلاثة أصوات هي أم كلثوم وأسمهان وفيروز؟ من سيجرؤ على إخراج أم كلثوم مثلاً من المسابقة؟ نانسي أم تامر أم كاظم؟ وكيف يتبارى صوت كصوت سهيلة التي خسرت، مع صوت كـ.. غنى ابو حمدان؟
قد يسامح المرء حين يكون الموضوع بين كبار، ولكن بين أطفال؟ لا تؤاخذوني، فلا شيء أبداً، لا شيء في الدنيا بأسرها يستأهل أن تسيل من أجله تلك الدموع الحارقة التي فرت من العيون الصغيرة المنكسرة، بالرغم من كل محاولات الحكام والبرنامج لكتمها، أو تعزية أصحابها. كان من الممكن أن يكون هناك نظام آخر للاختيار بين أصوات متشابهة، وفي برنامج للأطفال أو المراهقين، كسحب الأسماء مثلاً! فيكون الملام هو الحظ، وهو أخف وطأة من أن يكون الطفل نفسه هو الملام، ليس أمام تلامذة صفه، ولا أمام أخوته، بل أمام ملايين المشاهدين. أو ربما... لا أعرف... ليست مهمتي أن اتصور حلولاً لمشكلة لم أوجدها، ولكن ما هو مؤكد، صدقوني، وما لا يمكن احتماله، لي على الأقل، هو تلك الدموع، دموع الأطفال الخاسرين.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم