غربة اللغة الأم

لم أستطع أن أنسى تلك "الخبرية"، بدت لي كأنها نوع من الحكايا الأسطورية، كخرافات الغيلان والجنيات. قال: "كنت أعمل صبياً عند محلات الصفدي للقماش والملبوسات الرجالية في البلد، كان ذلك في الخمسينيات. يومها، دخل دركيان إلى المحل الشهير وحررا لنا مخالفة. لم أفهم السبب، لكني ناديت معلمي صاحب المحل، وكان يهودياً. ولما جاء وسألهم عن المشكلة قالوا له: لقد كتبت اسم محلك باللغة الأجنبية وبخط كبير ولم تكتب الاسم بالعربية. وهذه مخالفة للقانون، لأنه يجب أن تكتب اسم المحل باللغة العربية وبخط كبير فوق، وإذا أردت أضافة الاسم باللغة الأجنبية، فيجب أن تكتبه بخط أصغر وتحت الاسم بالعربية وليس فوقه حسب نص القانون"! ثم قال إن صاحب المحل بعد لأن دفع الغرامة (كانت خمس ليرات على ما أظن) أنزل اللافتة وأرسل للخطاط ليكتب له واحدة جديدة وفق متطلبات القانون وعلّقها كما قال الراوي "في اليوم ذاته".

هل هذا صحيح؟ هل هناك قانون ينص على ما جاء ذكره؟ بالمنطق؟ يجب أن يكون هناك قانون مماثل. ووربما ما زال موجوداً، لكنه، كباقي عدتنا القانونية، مجمّد السريان بقوة الفساد الحاكمة، إضافة إلى قرار مضمر أحيانا وواع في أغلب الأحيان، يقضي بالابتعاد عن "تعاطي" اللغة العربية واعتبارها لغتنا الأم، بكل ما يليق بأمومتها من ممارسات!
لا يريد أغلب اللبنانيين، عن وعي أو لاوعي أو مجاراة للتيار العام، أن يتكلموا العربية! فاللغة بالأصل، هي اسم من أسماء الانتماء الوطني من جهة، وصلة مع باقي المواطنين من جهة ثانية، أما في لبنان فهي إداة تصنيف إيديولوجية وطبقية.
فأما كونها انتماء، هوية بالمعنى الاجتماعي والوطني، فهي وبسبب الخلاف على هوية لبنان المزمنة، أصبحت ضحية لهذا الخلاف، صورة صادقة عن فكرة الوطن المبهمة في أذهان اللبنانيين (التي تعكسها فكرة العمالة وجهة نظر مثلاً)، ولذلك يقدم الكثير من اللبنانيين، على رفضها كونهم اختاروا أن يكونوا فينيقيين! كأن الانتماء الى هوية هو نوع من التسوق في سوبرماركات الدول! يرفض هؤلاء العربية كنوع من رفض لعروبة لبنان. يفعلون ذلك ولو كان الانتماء الذي يختارونه من الأساطير المؤسسة للعقل اللبناني، غير موجود فعلياً، أي أنه ليس هناك من لغة فينيقية، ولا يعرف مدّعو الانتماء الى هذه الصفة، أي شيء عن اللغة الفينيقية (وهي لغة كتابة) لدرجة أن اللبنانيين لا شك يذكرون الفضيحة التي أثارتها الأخبار بما يتعلق بالألف ليرة يوم طباعتها بشكلها الجديد، فقد اكتشفت اختصاصية الآثار الزميلة جوان فرشخ بجالي يومها أن دولة الفينيقيين طبعت الأبجدية الفينيقية على ورقة الألف ليرة... بالمقلوب!
تبعاً لهذا الرفض الإيديولوجي للغة الأم، استعاض رافضو العروبة عنها بلغة "حية" و"محبوبة" كالفرنسية، لغة المستعمر الذي يحلم بعض هؤلاء بعودته، أو بأن يأخذهم لعنده، وفي الحقيقة ليته يفعل، لكنه بالطبع لن يفعل، فهؤلاء التابعون المستعمرون حتى نخاعهم الشوكي، ليسوا مهمين لمعلمهم القديم/الجديد، إلا في الوظيفة التي يقدمونها له في وطنهم: أداة للتدخل في شؤون لبنان، واستطراداً في المنطقة، إضافة الى استمرار استتباعهم واستخدامهم كسوق لبضائع الفرنكوفونية، أحد أسماء الاستعمار الحسنى.
وأما بوصف اللغة صلة مع بقية المواطنين، فقد كانت مرة أخرى ضحية. دفعت اللغة ثمن كراهيتنا لبعضنا البعض، استطراداً لخلافات متراكمة لم تحل مرة إلا على زغل، هكذا يصبح رفض العربية أداة لقطع الصلة إيديولوجيا بمن يعتمدونها!
بهذا المعنى، حول اللبنانيون اللغة العربية الى ميدان صراع إضافي، فصار التكلم بها أو العزوف عنها خياراً "إيديولوجياً" و"طبقياً" يتمثل به الأثرياء الجدد، ما أكثرهم! أو الطامحون ليكونوا أثرياء جدداً، وهم أكثر بكثير.
ثم وقع علينا التطور التكنولوجي خصوصاً في مجال الاتصالات، وبعبقريتنا التي تستطيع تحويل أي شيء قيّم الى منبع للضرر، اخترع الفينيقيون اللبنانيون لغة جديدة للاستخدام في الرسائل النصية، كون صنّاع التلفونات بداية لم يبالوا بتنزيل برنامج باللغة العربية، ولِمَ يفعلون؟ إن كانت السوق تتكلم الفرنسية والإنكليزية؟ هكذا اخترع اللبنانيون الكتابة التي تخلط الأرقام بالحروف، فكانت اللغة العربية التي ينطقون بعاميتها، الضحية مرة أخرى.
ولقد استشرى الأمر، حتى أنك لم تعد تعثر تقريباً على مطعم أو ملهى يكتب قائمة أطباقه بالعربية. ولا يقتصر الأمر على المطاعم والمقاهي، بل يتجاوزه حتى إلى... الإعلانات! هكذا يتلقى هاتفي كل يوم، والموسم موسم أعياد، رسائل نصية بالإنكليزية أو بالفرنسية تدعوني الى مكان ما. فما معنى ذلك؟ ألا يحسب المعلن أنه سيخسر لو أن زبوناً لم يفهم رسالته؟ إن كانت المصلحة البحت التجارية غير قادرة على فرض اللغة العربية كلغة تسويق، فما معنى ذلك؟
أذكر حين كنت أدير قسم المجتمع في "الأخبار"، أني كنت أتلقى عشرات الرسائل يومياً من مواطنين وسفارات وجمعيات كلها تريد التواصل معنا، أما اللغة المعتمدة... فكانت الإنكليزية أو الفرنسية بغالبيتها، حتى أني اضطررت لإرسال رسالة الى كل هؤلاء أقول فيها إن أي رسالة لن تصلنا بالعربية سيتم إهمالها، كوننا جريدة ناطقة بالعربية. حينها راسلنا بعض هؤلاء للاعتذار والوعد بأن تكون العربية هي لغة التراسل الأولى، ولكن من هم هؤلاء الذين تجاوبوا؟ المؤسسات والممثليات الأجنبية! أما اللبنانيون؟ فأكثرهم لم يبالِ... "إيه والله!".
أما الأخطر، فهو الخلط بين لغتين أو ثلاث، غالباً هي العربية والإنكليزية والفرنسية. فكيف إن كان هذا الخلط عند الأولاد؟ أما إقبال الجنس الناعم على الخلط بين تلك اللغات (مع تنعيم الصوت وترقيق مخارج الحروف) تدليلاً على الأنوثة والرقي الاجتماعي... فماذا يقال فيه غير أنه نوع من "المحن"؟
والموضوع لم يعد مقتصراً على المواطنين من غير متعاطي الكتابة، ففي معرض نقد الذات، أذكر أن بعض الزملاء في جريدتنا وفي جرائد أخرى، لا يتورعون عن استخدام اللغة الأجنبية أحياناً في عناوينهم أو متن تقاريرهم، بحجة أن بعض الأشياء لا تُترجم، وهذا خطأ. فقد أثبت السوريون مثلاً أن لا شيء يعصى على الترجمة الى العربية إن بصيغتها الفصحى أو العامية. إن ما ينقص هؤلاء الرغبة أو الإحساس بالضرورة أو ربما الوقت، وغالباً متانة اللغة، مع التنويه إلى أنه في بعض الأحيان يصبح استخدام الأجنبية ببعض المصطلحات، خياراً تحريرياً نظراً إلى قوة دلالته. كما عنونا مثلاً "ابوكاليبس ناو" عن أحداث ١١/٩ في جريدة "السفير". أو مثلاً أن نكتب بالروسية ما معناه "نحن نحبكم" كعنوان لتحقيق عن إقبال السوريين على تعلم الروسية مثلاً، أو أن نكتب بعد تطبيع قطري مع العدو "شكراً قطر" بالعبرية! أما أن يلجأ تلفزيون، وهو ليس كالجرائد المحصورة بجمهور القارئين، الى اللغات الأجنبية في "التوك شو" أو حتى البرامج الموجهة للبنانيين والعرب، فهو شيء لا يجده عادياً أي شعب، ما خلا اللبنانيين! هكذا تذكرت كيف أن صديقاً فرنسياً مستعرباً كان يتابع التلفزيون مدهوشاً بمشاهدة لغته مستخدمة على شاشة لبنانية في برنامج ناطق بالعربية! كان يضحك وهو يقول: تصوري العكس، أن يستخدم التلفزيون الفرنسي مثلاً اللغة العربية حين يتوجه الى الفرنسيين. نعم... نعم أتحدث عن تلفزيون "ام تي في" "ما غيره!"، لكن جمهور "ام تي في" الإيديولوجي، لن يجد في هذا الأمر شيئاً غريباً، وإن وجد مواطن في دير الأحمر مثلاً أو عيناتا الأمر مبهماً، ربما استحى أن يعترض لئلا يتهم بالتخلف!
كان المسيحيون اللبنانيون، الكهنة خاصة وأبناء الكنيسة المارونية على الغالب، رواد حب اللغة العربية وتطويرها. ربما كان ذلك لأسباب إيديولوجية خاصة بالانفصال عن المستعمر العثماني تارة، أو بسبب أن العروبة كانت الصيغة الأفضل للانتماء الى عالم مسلم بغالبيته الساحقة، لكن هل يكون تراجع العربية بفعل اليأس "الوطني" وفشل العرب في تقديم نموذج دولة ناجح، إضافة الى فلتان تجارة التعليم وانهيار الثقة بالذات الوطنية، نهائياً؟ وكيف من الممكن العودة عن هذه الظاهرة الخطيرة؟
لا أعرف ما هو الحل. لكن، ربما يكون بعض الحل في تطبيق قوانين حماية اللغة الأم في مجال التعليم، وبتغريم المخالفين في الفسحة العامة من أصحاب اللافتات وقوائم الطعام في الملاهي والمطاعم. لا ندعو الى "سينيال" معكوس، أي على غرار مدارس الانتداب الفرنسي، حيث كان من يتكلم العربية خلال الفسحة يُعاقب، ولكن... فلننظر في المرآة: هل نرانا؟
اليوم، هو يوم اللغة العربية. لا وزير التربية ولا وزير الثقافة ولا أحداً "التكش" بيوم اللغة الأم. ما خلا بعض الجامعات كالجامعة الأنطونية التي دعت الى نشاط في هذه المناسبة، كما احتفلت مدارس أرثوذكسية في عكار بهذا اليوم أيضاً. أما في الدولة اللبنانية المقطوعة الرأس بهمة دواعش السياسة الإقليميين والمحليين، فكان نصيبها من يوم العروبة اللغوية، استضافة نشاط عن... الشرطة العربية!

لا أدري بم يوصف من ينكر أمّه، وهويته. لكن بكل تأكيد إنه لا يستأهل من الشعوب الأخرى إلا نظرة السخرية أو ربما الشفقة. أما الاحتقار للذات؟ فهو ليس بحاجة إلى استيراده. ذلك أنه لديه منه الكثير.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم