حكي سرفيسات: حبال الهواء

في «الفان رقم ٤» المتجه الى الحمرا، والذي ينتهي خطه كما يعرف الجميع عند مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، تناهى الى سمعي حديث كان يدور خلفي تماماً بين راكبين. لم أكن أستمع إليهما في البداية. كنت شاردة على عادتي حين أستقل الباص، منصرفة الى مراقبة الناس والشوارع، متعتي الحقيقية! لكن، صوتهما علا ما إن توقفنا في الزحمة الخانقة، بعدما هدأ موتور الفان عن الدوران والضجيج بالطبع.
كان المتحدث كهلاً ببشرة غامقة السمرة وذقن خشنة تخللتها شعيرات بيض، كما زادت التجاعيد العميقة من خشونة مظهره. كان الرجل يتحدث بلهجة بقاعية متروية، وهو يفلت واحدة تلو إخرى حبات سبّحته الرخيصة، على طريقة وجهاء القرى. أما الثاني، أي المستمع، فقد كان موظف "سيكوريتي" من المنطقة ذاتها، حسبما بدا من اللهجة، يبدي اندهاشه بين الفينة والأخرى، بتعابير من نوع «والله؟» كنوع من التهذيب في الاستماع الى رجل بعمر أبيه.

«والله؟» طرقت سمعي بعدما توقف الفان. بدا أن الكهل كان يقص عليه قصة ما «الرجال كان قلبو محروق... ولعان يعني، واقف عم يصرخ سرقني ابن الكلب، والله سرقني! هلق لما قلتلو هيك، قللي: يا عمي الله يخليك، أنا بتكفل بحق البنزينات، بس انت بس دلني عليها. منيح؟ قلتلو على الله. قمت طلعت أنا واياه بسيارة، قلتلو اتجه ع ضهر البيدر... من هون لهون... هه، وإلا شفت السيارة، سيارته هيه بذاتها. قلتلو هياها؟ مش هيك؟ كانت بعيدة عنا شي كيلومتر. جنّ فرد مرة وصار يدعس بنزين متل الأخوت...».
"والله!" يرد المستمع كمن بدأ يهتم بالقصة. يتابع الكهل «قلتلو ليك. ما تلحقوا هون... هلق مننزل من الطريق التحتانية من بحمدون ومنلاقيلو ع ضهر البيدر. دعس إجرو ع البنزين وطيراااان... وصلنا قبله بشوية. وأول ما وصل استلقّوه هونيك الحاجز وقالولو انزل». يقول المستمع «هيك! طيب ورجعولو سيارتو؟» يجيب الكهل «كيف لكن؟» ثم يضيف «قللي شو بدك بِعمَلّك، فضلك ع راسي من فوق... كل رزقي من ورا هالسيارة. قللي والله لو ما صارت معي ما كنت صدقت، كنت قلت حكي نسوان، بس الله يبارك فيك قلت وفعلت. أحسنت».
كان مستوى التشويق قد أصبح عالياً بالنسبة إليّ، وخاصة أني كنت أعير أذناً للخلف في حين كانت أبواق السيارات المستاءة من زحمة السير قد بدأت تلعلع. لم أتمالك نفسي والتفتّ الى الرجل قائلة «كيف لقيتها يا حج؟ يعني كانوا سارقينلو اياها؟» قال وهو يتخذ هيئة جدية لا تسمح بأي ردة فعل غير جدية «أنا يا عمي بضرب بالمندل».
تمالكت … وجهي لئلّا أضحك! وكبست على نفسي لئلا أبتسم حتى. ثم قلت له بجدية مماثلة «يا عين. وشو بتلاقي؟ يعني الناس بيجوا عندك بس للسيارات ولا شي تاني؟». تفحّصني بنظرة ماكرة كما يحسن ذلك أهل القرى، ثم تابع بهدوء «لا يا بنتي. حسب. هلق أنا رايح على مستشفى الجامعة... هيدا الفان بيروح لهونيك ما هيك؟ في عيلة واحد مريض، عجزوا الأطبا ليعرفوا شو بو وما عرفوا. اتصلوا فيني إنو بلكي أنا بلاقي شو مالو هالزلمة. ومتل ما الله بيريد». ثم عاد ليتمتم بالبسملة وقراءة الفاتحة وهو يداعب حبات سبّحته، بانتظار أن يمشي السير.
اختلست نظرة الى موظف "السيكوريتي"، وابتسمت له متواطئة بسخرية. لكنه بدا شارداً. ثم أدرت وجهي الى الأمام وكان السير قد بدأ "يتلحلح". وإذا بي أسمعه يقول للمشعوذ "هلق الواحد كيف ممكن يعني يلاقيك؟ في تلفون؟".

يقال عن اليائسين انهم يتعلقون بحبال الهواء، الإسم الآخر للأمل. يا إلهي... كم هي متينة حبال الهواء!

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم