ليس غريباً أن يحضر العلم الجزائري المواجهات المشتعلة بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال في الضفة المحتلة، خاصة أن الموقف الجزائري تجاه القضية الفلسطينية فريد من نوعه ومثير لكثير من التساؤلات. «الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة»، لم يكن شعاراً أطلقه الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين، بل شعور تجسد في وجدان الجزائريين تجاه القضية الفلسطينية وشعبها. وهذا ما يعبّر عن المسؤولية الجزائرية الكبيرة وموقفها التاريخي المشرف مع القضية الفلسطينية.
ورغم البعد الجغرافي، فإن العلاقة التاريخية ظلت متوهجة بالمواقف التي قدمتها الجزائر من أجل فلسطين، فيما الفلسطينيون ينظرون إلى الجزائر كأخوة في العروبة والإسلام والوطن الكبير. كما اعتبر الفلسطينيون الثورة الجزائرية، التي نعيش ذكرى انطلاقتها في الفاتح من نوفمبر، أعظم ثورة عربية نالت حريتها واستقلالها، يُقتدى بها في الصراع مع الكيان الصهيوني. وهنا نذكر ما قاله الكاتب الفلسطيني أسامة العيسة «إن الفلسطينيين جمعوا التبرعات دعماً للثورة الجزائرية، كما حدث في مخيم الدهيشة في بيت لحم في خمسينيات القرن الماضي».
بدأت القصة عام 1855، حينما تعرض رمز المقاومة الجزائرية الأمير عبد القادر للنفي إلى دمشق، وبدأت عائلات المناضلين معه بالهجرة إلى بلاد الشام، والتي استقرت شمال فلسطين، وفي عام 1948 أعادوا الهجرة كفلسطينيين إلى دمشق، حيث شكلوا أبناء حي المغاربة في مخيم اليرموك، وحملوا وثائق فلسطينية سورية مثل الفلسطينيين المهجرين. وتجسدت المواقف التي وقفت إلى جانب فلسطين، منذ عهد الأمير عبد القادر، إلى الشيخ عبد الحميد ابن باديس «رائد النهضة الاسلامية في الجزائر»، الذي أفتى بوجوب نصرة القضية الفلسطينية، والمناضل بشير بومعزة كان يهرب الأسلحة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي. أمّا المجاهد الشاذلي مكي فكان يشرف على تدريب وتوصيل المجاهدين إلى فلسطين عام 1948.
كانت الجزائر من أوائل الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وساهم الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة، في دعم الثورة الفلسطينية وافتتاح أول مكتب لحركة فتح في عام 1963، حيث تسلم المكتب الشهيد القائد خليل الوزير «أبو جهاد». كما جرت على أراضيها عملية تبادل للأسرى بين فصائل الثورة الفلسطينية وسلطات الاحتلال عام 1968. كما استقبلت الجزائر آلاف الطلاب الفلسطينيين في جامعاتها، وسمحت بالتدريب العسكري لطلاب فلسطينيين في الكلية الحربية الجزائرية بـ»شرشال»، حيث تخرج منها الكثير من قيادات العمل الوطني المقاوم.
في 1982 استقبلت الجزائر 588 مقاتلاً فلسطينياً، بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، كما أن الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين، الذي يعتبر من أكثر الرؤوساء العرب رفضاً للاعتراف بـ»إسرائيل»، كان من المساهمين في إلقاء الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لأول خطاب له في الأمم المتحدة عام 1974. وفي الوقت الذي رفضت فيه عواصم العرب استقبال إعلان دولة فلسطين، كانت الجزائر تستضيفه في 15-11-1988 بقاعة الصنوبر في مدينة الجزائر العاصمة. ومن القاعة ذاتها أطلق إعلان الجزائر لنصرة الأسرى في ديسمبر عام 2010. من خلال قراءتنا للعلاقة بين فلسطين والجزائر، نقف على الأسباب التي ساهمت في بناء هذه العلاقة المميزة.

هرئيل: «الجزائريون
من أكثر الشعوب
العربية كرهاً لدولة إسرائيل»


أولاً: إن موقف الجزائر شعباً وسلطةً وأحزاباً ومؤسسات، ثابت ومبدئي من قضية الشعب الفلسطيني، ودعم مسيرته النضالية والوقوف إلى جانبه. وينظرون إلى القدس كرمز مقدس، وعقيدة يلتزمون بالدفاع عنها.
ثانياً: لم يتأثر موقف الجزائر بالخلافات الفلسطينية، بل بقي الموقف من فلسطين كقضية تحرر، ولم تدخل على الساحة الفلسطينية لاستثمار النزاعات أو صنع تحالفات بل بقيت ملتزمة بالقضية كثابت لا يقبل بمتغيرات السياسة.
ثالثاً: التشابه الكبير بين الثورة الجزائرية والفلسطينية، حيث كان الاستعمار الفرنسي، يعتبر الجزائر قطعة من فرنسا، وكان يهدف إلى أن يقطع أوصال المغرب العربي، وفي فلسطين، التي غرس فيها كيان صهيوني بدعم واضح من دول الاستكبار العالمي، وكان يسعى إلى استغلال الاقتصادي والهيمنة على المنطقة، وأن يفصل بين أقطار الشرق العربي ويقطع الطريق على وحدتها.
رابعاً: الوفاء والصدق اللذان يتصف بهما شعب الجزائر، كانا ضامنين لبناء هذه العلاقة واستمرارها، رغم كل الذين يحاولون تشويه الطريق إليها، وفي المقابل لم يغفل الشعب الفلسطيني عن ذلك، وبقي يحفظ للجزائر هذا الخط الأصيل.
خامساً: عداء الشعب الجزائري للكيان الصهيوني، وكرهه له. وفي هذا يقول الخبير الاستراتيجي الإسرائيلي عاموس هرئيل: «الجزائريون من أكثر الشعوب العربية كرهاً لدولة إسرائيل، وهم لديهم الاستعداد للتحالف مع الشيطان في وجهنا، إنها كراهية عجزنا عن إزالتها طيلة العقود الماضية، كما أننا فشلنا في القضاء على هؤلاء الأعداء الذين لم ندخر جهداً من أجل دحرهم أو القضاء عليهم»!.
سادساً: النماذج الكبيرة التي قدمتها الجزائر وفلسطين على طريق التحرير والاستقلال، من التضحية والفداء وقوافل الشهداء، جمعت بين الشعبين في دائرة الشعور الإنساني المشترك، حيث ترى الجزائر «بلد المليون شهيد»، في فلسطين صورتها الأخرى. من جانب آخر، واكب الأدب الجزائري قضية فلسطين، واستغل الشعراء كل مناسبة لتأييدها. وكتب هؤلاء قصائدهم في مجلة «الشهاب»، أمثال: محمد العيد، ومحمد جريدي، ومفدي زكريا، وغيرهم الكثير، أما الروائيون، فكانت القضية حاضرة في روايات واسيني الأعرج، والطاهر وطّار، وأحلام مستغانمي، فيما قابلهم شعراء وأدباء فلسطين بالكتابة عن الجزائر، فكتب الشاعر الفلسطيني سليم النفار: غداً.. سيجيءُ من رحم السماء، فلنا خيولٌ.. ها هنا.. فرسانها جيشُ الإباء.. شعبُ الجزائر.. لو تنادي: كلّهُ الشهداء. وهذه العلاقة لم تقتصر على السياسة، بل امتدت إلى الرياضة ورفع العلم الفلسطيني في ملاعب الكرة. حيث نرى العلم الفلسطيني حاضراً في ملاعب كرة القدم الجزائرية، بل ويحمل الجزائريون علم فلسطين في الملاعب العالمية، وقد كان خفاقاً في مونديال البرازيل الأخير، بينما كان الفلسطينيون يدعمون الجزائر بقوة في مونديال 2014. وهذه التوأمة بين فلسطين والجزائر، ستقود حتماً إلى تحرير الأرض والإنسان، وإعلاء راية الأمة لتأخذ دورها الريادي في قيادة البشرية جمعاء.
* كاتب وباحث فلسطيني