«المواطنون العاديون ليس لديهم أي تأثير يذكر على ما تقوم به الحكومة في الولايات المتحدة»
مارتين جيلينز


■ ■ ■



في ندوة عُقدت أخيراً حول كتاب كمال هاني «الحزب الشيوعي: تفاقم للأزمة أم انفتاح على التغيير؟»، قدّمت مداخلة في سياق النقاش حول مفهوم المركزية الديموقراطية للتنظيم الشيوعي، اعتبرت أن أسهل الانتقادات التي تساق في هذا المجال هو أن نعتبر أن المركزية تتغلب دائماً على الديموقراطية، أو أن المفهوم كله خاطئ بالمطلق. وبالتالي، حسب هذا النوع من النقد فإنه إما أن يرتفع منسوب الديموقراطية، أو أن يتخلى الحزب الشيوعي كلياً عن هذا الشكل التنظيمي.

المسألة بالطبع ليست بسيطة أو مطلقة بهذا الشكل. فالتنظيم الحزبي مهما كان شكله هو محدد في السياق السياسي، فكما قال لينين «إن المسائل السياسية لا يمكن فصلها بشكل ميكانيكي عن المسائل التنظيمية، وإن أي شخص يقبل أو يرفض التنظيم الحزبي البلشفي، بمعزل عما إذا كنا نعيش في زمن الثورة البروليتارية، يكون فهمه خاطئاً تماماً». وكما قال جورج لوكاش في كتابه «لينين: دراسة في وحدة فكره» إن لينين كان يمقت بالقوة نفسها الذين استسلموا للبرلمانية، كما الذين هم ضد البرلمانية بالمبدأ. وبالتالي، إذا أردنا أن نرجح كفة الديموقراطية، على هذا الجنوح أن يكون معللاً بحاجة الحزب لمماهاة شكله التنظيمي الأكثر ديموقراطية مثلاً مع برنامجه للوصول الى السلطة عبر الوسائل البرلمانية أو مع عدم راهنية الثورة، لا أن يكون ذلك الجنوح ناجماً عن الإيمان المطلق بالديموقراطية. فالإيمان المطلق السطحي بالديموقراطية، وخصوصاً بشكلها الانتخابي المحض، أدى الى انحرافات سياسية عديدة.
الديموقراطية لا تسمح لقلّة بأن تتحكم بالثروة والسلطة

في هذا الإطار، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، اكتشف بعض الشيوعيين اللبنانيين وبعضهم من القيادة الحزبية مفهومَي الديموقراطية وبناء الدولة، والبعض من هؤلاء، في معرض نقدهم لتجربة الحزب، اتهموه بأنه كان ضد الاثنين، وأنه في الحرب الأهلية أراد تدمير الدولة عبر استعمال العنف وإلى ما هنالك من اتهامات لم تأخذ بالاعتبار حينها لا سياق الأحداث في الحرب، ولا أن في تاريخ الحركة الشيوعية العالمية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى ذلك الوقت، هنالك نقاشات حول الديموقراطية ما يملأ مئات المجلدات.
نقطة اعتراضية حول مسألة العنف. ولو على سبيل التبسيط التاريخي، يمكننا اجتراح تجربة ذهنية، مستوحاة من نظرية الفيلسوف الشهير جون رولز حول العدالة، كالتالي: لنفترض أنه كان هناك استطلاع رأي في الحرب وطرح السؤال الآتي: إذا كنت مضطراً للمرور على حاجز مسلح، ولكن لديك الخيار أن تختار من خلف «حجاب الجهل»، أي قبل دخولك في العقد الاجتماعي (في حالة لبنان، قبل أن تعرف هويتك الطائفية وليس موقعك في تراتبية الدخل كما في نظرية رولز)، أي حاجز تمر عليه؟ بالتأكيد، لكان اختار الجميع الحاجز المسلح للحزب الشيوعي اللبناني.
بالعودة الى الديموقراطية، على الرغم من أن الحزب طور نظرية سطحية عن الديموقراطية والاشتراكية اللبنانية في السابق، والتي استعملت لاحقاً للقول بأن الحزب كان متميزاً عن الاتحاد السوفياتي، بينما الحقيقة تقول عكس ذلك (تأييد الحزب لقمع ربيع براغ في 1968)، إلا أن هذه «النظرية» كانت مبنية على أساس أننا في لبنان ولدينا تقاليد ديموقراطية، فإن الحزب يتبناها حفاظاً على هذه التقاليد من دون الربط بين الديموقراطية والوصول الى الاشتراكية. كل هذه المحاولات كانت من دون بعد نظري وحلت المعضلة بقاعدة حسابية بسيطة يفهمها أي تلميذ في المرحلة الابتدائية: اشتراكية + ديموقراطية. والبرهان على ضحالتها أتى سريعاً، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي نسي الكثيرون الاشتراكية في المعادلة وتبنوا الزائد، بل أسوأ، فبعضهم تبنى منطق ومصالح الرأسمال والطوائف.

تاريخياً، لم يكن الماركسيون ضد الديموقراطية، ولكن مجيء الشيوعيين الى السلطة في أوروبا أتى في ظروف تاريخية محددة، وهذا ما يتناساه البعض. فأوروبا الشرقية لم تكن واحة الديموقراطية قبل الشيوعية، في ما عدا تشيكوسلوفاكيا. فالأنظمة هناك كانت تتراوح بين الديكتاتورية والفاشية وبقايا الإقطاع، في ظل اقتصادات متخلفة وزراعية الى حد كبير. في تلك البلدان، مهدت الشيوعية الطريق الى التنمية الحقيقية وإطلاق الحرية الكامنة للشعوب عبر إزالة الفوارق الطبقية والقضاء على الأوليغارشيات ونشر التعليم والصحة والثقافة وإشاعة فكرة المساواة والإنسان الجديد. وعلى الرغم من الطابع الطبقي الأولي للأنظمة الشيوعية، إلا أن هذا الطابع تغير مع مرور الزمن. في الاتحاد السوفياتي مثلاً، تم الانتقال في الستينيات من مركزية حكم الطبقة العاملة الى فكرة المواطن السوفياتي، أي أن الدولة لم تعد أداة لحكم طبقة البروليتاريا، بل هي لجميع المواطنين السوفيات. كل هذه الأفكار والقيم والتحولات الاقتصادية والاجتماعية مهدت الطريق للثورات المخملية ضد النظام نفسه، وهي الآن تلعب الدور الأساسي في خلق النوستالجيا للحكم الشيوعي.
مما لا شك فيه أن الديموقراطية الحقيقية هي أفضل النظم السياسية. لكن أن يخلط الكثيرون بين حرية التعبير والحق الانتخابي وبين الديموقراطية هو الخطأ المميت. الديموقراطية تعني أن يمتلك الشعب القرار السياسي في جميع نواحي الحياة، وبالأخص في عملية توزيع المداخيل والثروة، فهذه العملية هي الأساس في العملية السياسية وليست الأمور الأخرى. في ظل الرأسمالية المعولمة والمالية، أصبحت العملية الديموقراطية مسيطراً عليها من القلة خدمة لمصالح هذه القلة. على سبيل المثال، بينت أخيراً دراسة تجريبية، لمارتين جيلينز وبنجامين بايج من جامعتي برنستون ونورثوسترن، لحوالى 1800 اجراء وسياسة حكومية في أميركا أن القلة تتحكم بمساراتها منتجة «سيطرة النخبة الاقتصادية» على الديموقراطية الأميركية. إن هذه الطبقة تعلم أن الديموقراطية إذا ما أخذت الى مداها المنطقي، أي حكم الشعب، فإنها ستعني نهايتها ونهاية الرأسمالية وبدء ديموقراطية حقيقية، لأن الأسس الديموقراطية في ظل الاشتراكية مبنية على عدم السماح لقلة بأن تتحكم بالثروة، وبالتالي بالسلطة، مثل ما يحدث في الرأسمالية اليوم.