شركة الاستقلال

"كل تلفوناتي عملتن ع الواقف احتراماً للنشيد" غرد أحد الظرفاء تعليقاً علي ما فعلته شركات الاتصالات المحتكرة لاتصالاتنا، عبر وضعها النشيد الوطني اللبناني كرنّة تلفون إجبارية لكل اللبنانيين! ثم كتب "بقترح ع وزارة الدفاع إنو تتقدم بطلب للطيران الروسي تيعملنا عرض عسكري يوم الأحد بمناسبة عيد الاستقلال!" مشيراً إلى تعطيل حركة الطيران المدني في مطار بيروت، بسبب المناورة التي فرضها هو الآخر علينا وعلى دول المنطقة البحرية الروسية الشقيقة بدون سابق تشاور!
هذه عينة فقط من تعليقات اللبنانيين الساخرة على احتفاء شركتي الاتصالات بذكرى الاستقلال، المضافة الى فولكلور النفاق الوطني السمج عن التعايش، غير المتورع عن الاحتفاء باستقلال يتبدى بوضوح نادر، زيفه. وهو زيف مضاعف الخطورة كونه يغطي استعماراً من نوع جديد، يشترك في ترسيخه "مجتمع دولي" وطبقة سياسية لا حد لفسادها!

هكذا، وفي اللحظة التي يبدو فيها لبنان كخرقة مهلهلة تمزقها التجاذبات التي تعصف بمنطقتنا، ويدمر مواطنيها سؤال الهوية المرّ، في اللحظة التي يكتشف فيها عدد كبير من اللبنانيين، عريهم الوطني، وحقيقة "استقلالهم" المتبدي بفراغ في المؤسسات بانتظار سماح "المجتمع الدولي" على اختلاف اتجاهاته، بملء تلك الشواغر، تضرب "شركة ألفا" ثم تتبعها شركة "ام تي سي" ضربتهما، فتحولان كلاً منّا الى لوحة إعلانات بحجة الاحتفاء بعيد الاستقلال. هكذا، وتماماً كما كنا نفعل أيام المدرسة، حين كان الواحد منا يداعب الأصدقاء بأن يتظاهر أنه يعانقهم ليلصق على ظهرههم ورقة، من دون معرفتهم طبعاً، كتب عليها أنا "حمار" أو أي شيء من هذا القبيل، تحولنا شركات الاتصالات العبقرية إلى لوحات إعلانية وطنية، عبر الاستيلاء على رنّات هواتفنا وتحويلها الى رنّة النشيد الوطني.
“إيه شو هالوطنية ع الريق يووووه" تمازحني إحدى الصديقات هاتفياً! بالطبع، لم أفهم بداية، ثم شرحت لي أن رنة الانتظار علي هاتفي كانت "الكلنا للوطن". هكذا قالتها "الكلنا للوطن"، فأضحكتني برغم غضبي من الشركة التي استباحت خطي، بفائض من هرمونات وطنية لا أعرف من أين أتت بها! أما صاحب الفكرة بعد التدقيق؟ فليس إلا وزير الاتصالات بطرس حرب!
ولكن كيف يسمح هذا الوزير لنفسه، وتحديداً في هذه الأيام التي لم يتبق له فيها شيء من صلاحياته، كيف يسمح لنفسه حتى بذكر كلمة "الاستقلال"؟ وهل أبقى هو وزملاؤه في السلطة وعبر الحكومات المتعاقبة، شيئاً من الاستقلال؟ كيف يجرؤ أن يفعل في وقت ينتظر فيه هو وغيره من عوانس رئاسة الجمهورية، أن تأتي الخاطبة باسم أحدهم ليترأس هذا... الماذا أسميه؟ وطن؟ ساحة؟ بلد؟ مزرعة؟ محطة ترانزيت؟ أم هي استباحة لآخر حقوق المواطنين بالتصرف بممتلكاتهم الخاصة بعدما فرّطت السلطة بـ"داتا" أحوالنا الشخصية وبأموالنا العامة وممتلكاتنا المشتركة؟
ربما يكون طبيعياً لدولة رجال الأعمال، أن تتحكم "شركة" بالمواطنين، وأن تسمح لنفسها باستخدامهم كلوحات إعلانية لوطنيتها غير اللائقة التوقيت! فمن هم في السلطة أصلاً يديرون الدولة كشركة، ولا يرون فينا إلا زبائن عليهم أن يستهلكوا ما تستورده شركاتهم وشركاؤهم، وأن يمولوا ديونهم ويرهنوا مستقبلهم لسدادها.
لكن المضحك أنه في حين تتعامل الدولة معنا كزبائن، تتعامل الشركة معنا... كمواطنين في دولة ديكتاتورية لا يُسألون رأيهم في ما خص ممتلكاتهم! وهذا نوع جديد من "الاشتراكات" بين الأنظمة، ربما وجبت تحية اللبنانيين عليه، فهو لا شك اختراع أفضل بكثير من "أطول منقوشة" احتفى بها مواطنونا أمس بمناسبة ذكرى استقلالهم الخلّبي!

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم