يأتي خيار الفودكا فعالاً في حياة الناس الذين يريدون القيام بإجراء ما/ أو قول ما لا يقدرون عليه وهم في حالة «الصحو»، إذ تنقصهم الشجاعة اللازمة لإتمام الأمر. مع ذلك، فهو «مشروب سيئ الطعم» بحسب اعتراف الصحافي أشرف عبد الشافي في مقدمة كتابه «فودكا، البغاء الصحفي» («دار مقام»/ القاهرة). لكن القارئ سيحتاج «فودكا» إضافية في محاولة تقوده لتحمّل تلك الصور والوقائع وحالات السقوط الصحافي الحاصلة في عالم السلطة الرابعة المصرية الذي يسرده الكتاب في هذا الإصدار الشائك والمُرّ.الصحافة المصرية ليست بخير. سيخرج قارئ «فودكا» بهذه النتيجة وهو يتنقل من صفحة إلى أخرى، ومن حالة لغيرها، مقدماً أمثلة صحافية وأسماء كبيرة، وسارداً كيف نجحت في «جعل الفسيخ شربات» بحسب المثل الشعبي الشهير، أيّ تظهير الصورة على عكس حقيقتها لأهداف شخصية بحت وبناء علاقات مع رجال أعمال وسياسة وتلميع أصابعهم التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاماً في نهش مال فقراء المصريين. وكان صاحب رواية «ودّع هواك» (2009) الذي جعل من تجربته في جريدة «العربي» محوراً لها، قد افتتح مهمّة كشفه لتلك الأسماء في الجزء الأول من «البغاء الصحافي» (2012) منقباً في متن النظام المباركي الذي اكتسب مشروعيته من معارضيه عبر لعبة الصفقات وسطوة منطق «خد حتة وسيب حتة، خد برنامج وأوعى تلمس السلك عريان».

قد يبدو ضرورياً هنا التنويه بذلك الإهداء الذي سجّله عبد الباقي في مفتتح كتابه «إلى محمد شهدي وأصدقاء شقة بولاق أبو العلا». ستظهر أهمية هذا الإهداء الذي لا يبدو عابراً، عندما نتوغل أكثر في محطات الكتاب. سنكتشف أن غالبية الأسماء الصحافية، التي سترد في الوقائع المذكورة بالتاريخ والمقال والجريدة، تربطها صداقة حقيقية بالكاتب، وسكن مشترك وعيش وملح خطوات واحدة في طريق الصحافة الجارح. هكذا ستبدو كُلفة الكتابة عن تلك الصداقات المتفرّقة باهظة، لكن لعل هذا ما سيُعطي المكتوب قيمته، خصوصاً أنه لم يخرج من الفراغ أو لغرض النميمة الفارغة حول «شخصيات تمثل الطبقة المتوسطة بكل رغباتها وشهواتها، قادمة من الريف وباحثةً عن شهرة وفلوس».
غالبية الأسماء التي ترد في الكتاب تربطها صداقة حقيقية بالمؤلف


لكنّ «الجورنالجي» محمّد حسنين هيكل ليس من أولئك ولا تنقصه شهرة أو مال. إنه معارض لنظام مبارك «ونجله شريك الناشر المُفضّل لسوزان مبارك (ابراهيم المعلم مالك «دار الشروق»)». مع ذلك، ينزعج هيكل من المعلومات الواردة عنه في الجزء الأول من «البغاء» وينقلها إلى الصحافي عادل حمّودة الذي يبلغ صاحب الكتاب بذلك الانزعاج. وكان أشرف قد كتب عن «رجل يعرف كل شيء»، تصدّر الشاشات «منظراً لثورة يناير 2011 بنفس أدوات ثورة يوليو 52». تنقلب العجلة لاحقاً ليكتب حمّودة سلسلة مقالات يكشف فيها عن «هيكل وأولاده وإبراهيم المعلم وعائلته بمعلومات دقيقة عن تورطهم في فساد مع عائلة مبارك!». بعد ذلك، سنتابع حالات لصحافيين غرقوا في «مستنقع المال السياسي» وكانوا يتقلّبون في كل مرة من جهة إلى أخرى بطريقة تحتقر ذاكرة الناس، ابتداء بمجدي الجلاد ومصطفى بكري وأحمد المسلماني وليس انتهاء بخالد صلاح صاحب «اليوم السابع» الذي فُضح بتسجيل صوتي وهو يتكلم عن الطريقة التي يتبعها لتمهيد الطريق لصالح جمال مبارك. لا يتحفظ عبد الباقي أيضاً على سيرة صديقه الحميم الصحافي وائل قنديل، برغم كونه «إنساناً وحيداً لا يثق بأحد» كما «يشرب البيرة ويتهكم عليها في ما بعد» مثل بيانات «ثورة يناير» التي ساهم في صياغتها وعاد ليسخر منها. سيجد قنديل طريقاً لجماعة «الإخوان» ليصير رئيساً لتحرير «العربي الجديد» القطرية التي سيُبعد عنها لاحقاً. وقبل ذلك، كان في «العربي» قبل أن يذهب إلى «الشروق» ويمتدح لاحقاً مرسي و«الخطاب الرومانسي الشهير الذي أرسله إلى رئيس الكيان الصهيوني» قبل أن يرحل هارباً إلى السعودية للعمل هناك.
حين يأتي موعد المرور على تجربة الصحافي ابراهيم عيسى، سيكون صاحب الكتاب مُجبراً على التنويه بدور رئيس تحرير «الدستور» التي فتحت باباً جديداً في جدار الصحافة المصرية، من خلال جيل من الأقلام الشابّة والجريئة في نقدها لإشكالية التوريث التي عجّلت سقوط مبارك. أحد هذه الأقلام للصحافي اليمني المصري بلال فضل الذي كان قد افتتح حياته الصحافية في صنعاء عبر جريدة «الصحوة» الناطقة باسم «الإخوان المسلمين» فرع اليمن، لينتهي كاتباً في «العربي الجديد». لكن عيسى سيقوم بمراجعة نفسه وسيظهر «معتذراً للقائد المظلوم من شعبه» وآسفاً أيضاً «عما كان يتصوره ويعتقده ويروّج له». جاء ذلك في خبر نشرته «اليوم السابع» عن شهادة عيسى في قضية مقتل المتظاهرين، ثم جاء على لسان محاميه «إن الحالة النفسية لمبارك جيدة جداً ويشعر بسعادة بالغة خاصة بعد إصرار عيسى على الدخول إلى غرفة وجود مبارك ونجليه داخل المحكمة ومصافحته لهم». وكان عيسى نفسه قد كتب مقالاً في 2009 عن «12 سبباً وراء حب المصريين لعلاء مبارك». وهو ما دفع تلميذه بلال فضل لكتابة مقال في «الشروق»، يبكي فيه المثقف الذي يتحول ويتبدل، عن تأثير «السلطة والمال والجاه» وعن «سقوط المثقف من بين أصابع شباب كانوا يقدسونه ويضعونه في مرتبة الآلهة». لكن صاحب «البغاء» سيكشف تورطه في الوقوف إلى صف بلال نفسه سابقاً «مدفوعاً بحب جارف وتقدير كبير لموهبته الفذة» قبل علمه خبر «عمالته للإخوان وزيارته إليهم فى تركيا»، إذ يقول: «ألا يكفي ألماً أن تكتشف
«عمالة» شخص كان قريباً منك بعض الوقت؟!». هكذا نجد أشرف عبد الباقي وهو يتنقل من حالة إلى أخرى وهو يسرد التفاصيل التي عاشها في «بلاط الجلالة» إلى نقطة وصوله لرفع صوته قائلاً: «كفاية قَرف».