1- دفاعاً عن «الإرهاب»حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كنت تجد تعبير «الإرهاب» في الكرّاسات والدراسات العسكرية كتصنيفٍ لـ «تكتيك» عسكري «شرعي»، مثله مثل أي فرعٍ آخر للحرب في متناول الجيوش النظامية وغير النظامية (الحرب الجوية، الحصار الاقتصادي، الخ)؛ وهو يهدف الى ضرب العدو في جبهته الداخلية، أو جعل مواطنيه يعيشون حالة الحرب، أو تخريب منشآت مدنية تخدم المجهود الحربي ــــ كسكك الحديد ومحطات الطاقة...

في الستينيات فقط، مع صعود حركات التحرر الوطني وحروب الاستقلال، تمّ تحويل التعبير الى مفهومٍ سياسيّ\ جنائي، يُستخدم في الغرب لنزع الشرعية عن العنف «غير الرسمي»، الذي تمارسه مجموعات غير حكومية لا يرضى عنها الغرب: في السنوات الماضية، دعم الإعلام الغربي، في سوريا وغيرها، مجموعات تمارس أبشع أشكال العنف ــــ ضد المدنيين ــــ لأنها تتماشى مع أجندات حكوماته، وقدّمها كحركات «ثورية»؛ وحين قتلت «داعش» عشرات المدنيين في بيروت، في جريمة لا تستهدف هدفاً أمنياً أو مجموعة محددة، بل هي مصممة فحسب ـــــ كعملية باريس ـــــ لإيقاع أكبر عددٍ من الضحايا، وصّفت «نيويورك تايمز» الحدث كـ «تفجيرٍ استهدف حلفاء ايران في حزب الله». في المقابل، ظلّت وظيفة «الإرهاب» أساسية في الحرب، وهذا لن يتغيّر. وحين يعطي الأميركيون حملاتهم أسماء كـ «الصدمة والرعب»، ويضرب الاسرائيليون البنى التحتية في غزة، ويسوّي السعوديون بالأرض أحياء كاملة في اليمن، فهذا هو تحديداً «الإرهاب»، بمعناه الوظيفي والكلاسيكي.
أتجنّب استخدام تعبير ولغة «الارهاب» في توصيف الجرائم التي تمارس ضدّ شعبنا، لا لأن في ذلك استيرادٌ لمفهومٍ غربيّ، مشحونٌ سياسياً ومنحازٌ سياسياً، بل لأنّ القبول بهذه اللغة واعتمادها بشكلٍ غير نقدي، وإن بدا «مفيداً» للبعض في هذه المرحلة، قد ينقلب ضدك غداً. في الغرب وإعلامه، وبالمعنى القانوني، لا يختلف تصنيف «داعش» و»النصرة» عن «حماس» و»حزب الله» بمقاييس «الارهاب»؛ واسرائيل، حين تحشد في الخارج لمحاربة «الارهاب»، فهي تدفع تحديداً للحرب ضد ايران وحماس وحزب الله، وليس ضد المجموعات السلفية الوهابية التي تعيث في أرضنا قتلاً (وقد صار بين بعضها واسرائيل تعاونٌ موثّق). من جهةٍ أخرى، فإنّ الشعوب المستضعفة التي تتعرض الى التهديد والغزو قد تضطر الى ممارسة العنف الذي يصفه الغرب بـ «الإرهاب» ــــ الأهداف ومستوى العنف يحددها السياق ـــــ واستنساخ الخطاب الغربي هنا قد يعني نزع الشرعية عن أي حركة تحرّرٍ ومقاومة. هذا الخطاب يستخدم، أصلاً، لهذه الغاية ضد المقاومة الفلسطينية وغيرها قبل أن تولد «القاعدة» وأشباهها، ويتعلّم السلفيون ــــ على يد المخابرات الباكستانية والأميركية ــــ كيفية صنع المتفجرات. حين ترضخ للغة عدوّك ومقاييسه، تكون قد نصّبته قاضياً عليك.
المشكلة مع «داعش»، وباقي أحفاد الزرقاوي، هي ليست في أنهم «ارهابيون»، أو في أساليبهم وتكتيكاتهم فحسب، بل في أنهم يعتمدون فكراً يحلّل تكفير الآخر وقتله، في بغداد وبيروت وباريس. ولو كان لـ «داعش» جيشٌ وأموال، لضربت مدننا بالطائرات واستخدمت وسائل أكثر فعالية وقسوة في غزو الأوطان واستعباد الناس وابادتهم (كما فعلت المملكة السعودية عبر تاريخها، مثلاً).

2- «السردية» و»المسؤولية»
بعد كلّ حادثةِ تأخذ صدىً عالمياً، يبدأ الإجتهاد في «تفسير» الجريمة و»وضعها في سياقها» والكشف عن أسبابها، ولكن البعض لا يحتسب الفرق بين الجدال «التفسيري» وبين «المسؤولية»، والأول هو تمرينٌ عقلي يمكن أن تبنى حوله أي سردية، أو أن تستثمره سياسياً في أي اتجاه (من الممكن ارجاع هجمات باريس مثلا، الى الحرب السورية، أو الى غزو العراق عام 2003، أو حرب افغانستان، أو سقوط السلطنة الخ)، بينما «المسؤولية» نقاشٌ يحدد الجاني والمذنب.
هناك خيطٌ سببي مباشر، مثلاً، يربط بين نموّ السلفية الجهادية في المشرق في السنوات الأخيرة، وبين جهود الحكومات الغربية في اقليمنا. من الوثائق التي تكشف عن معرفة المخابرات الأميركية، ورغبتها، باستخدام السلفيين ضد الدولة السورية، ووصولاً الى تصريح هيلاري كلينتون بأنها كانت تنسّق مع حكومة أردوغان، في الأمور الأمنية والاستخبارية، منذ الأيام الأولى للأزمة؛ ما يعني أن عبور عشرات الآلاف من المقاتلين الى بلادنا ــــ تحت أنظار المخابرات التركية ــــ كان نتيجة سياسة منسّقة وواعية. هذا لا يعني أنّ الحكومات الغربية كانت تعي المسار الذي ستأخذه «داعش»، وحين تم استخدام «المجاهدين» في أفغانستان، لم يكن موظفو المخابرات الأميركية يعرفون ــــ أو تهمّهم ــــ الفروق العقائدية بين حقاني ورباني ومجددي؛ وهنا يقبع التعريف الكلاسيكي لما يسمى، في لغة المخابرات، «الضربة المضادة» (blowback)، أي حين تدعم قوىً لهدفٍ معين، فترتدّ في المستقبل بأضرارٍ لم تكن تتحسب لها. ولكن أن يكرر الغربيون نفس العملية، بحذافيرها، مرتين، فهذا يصعب تفسيره بالسذاجة وقصر النظر.
في بغداد، لم يكن الناس يملكون الوقت، كما فعلنا في لبنان، للتعرّف على ضحايا التفجيرات، وحفظ أسمائهم والحداد عليهم، بل كان كلّ تفجير يتلوه آخر أعنف، حتى صار الضحايا بعشرات الآلاف، والتفجير سبباً «اعتيادياً» من أسباب الموت. بعد عملية باريس، ايضاً، لن يتغيّر شيء، وهنا الأساس. مصالح فرنسا مع السعودية أهمّ من حياة الأبرياء، ولن يعيد أحد النظر بما يجري في سوريا وليبيا واليمن؛ والسياسات التي ستنتج عن الهجوم ستكون (كما بعد 11 ايلول) مقررة سلفاً ولا علاقة لها بالجريمة والجاني.
التضامن مع الضحايا الابرياء بديهيّ، ولا معنى لتكراره، ولكن الدفاع عنهم أهمّ. ومن يتصدّى لحالة الرعب التي فرضت علينا، وما هجوم باريس الا شذرةٌ نفرت منها، هم الضحايا الأصليون للوهابية في بلادنا. الجاني هنا، وهذا ما يعرفه أهل العراق وسوريا ولبنان، ليس «الإرهاب» بمفهومه الأميركي، بل ثقافة الكراهية والطائفية، وسياسات الهيمنة والتلاعب بالشعوب؛ ومن أراد فعلاً أن يواجه «جذور الإرهاب» ومصدره، فهي ليست في الرقّة، بل في سفارات الدول الكبرى؛ ومنبعه وعاصمته ليست الموصل، بل عبر الصحراء في مدينة اسمها الرياض.