«إذا هدّولنا بيوتنا رح إحمل ولادي ومرتي بالسيارة، وروح على بوابة فاطمة أوقف هناك لحتى يرجعوني ع بيتي في فلسطين». بحزن وغضب بالغين، يصف ناصر حمادة (62 عاماً) السيناريو الوحيد الذي ينتظره، بعدما أُبلغ بوجوب إزالة تعدّيه على الأملاك العامة، وضرورة إخلاء منزله تحضيراً للهدم.
يقيم حمادة منذ عام 1982، في «حي السكة» العشوائي، جنوب مدينة صيدا. استقرار سبقه ثلاث عمليات نزوح متعاقبة، انطلقت من مخيم النبطية هرباً من همجية ميليشيات العميل أنطوان لحد، مروراً بمذابح تل الزعتر، ثم النوم في العراء بالقرب من نهر الأولي، إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأخيراً على سكة القطار جنوب المدينة البحرية.
لا يستوقف العابرين على أوتوستراد صيدا ــ صور شيء، سوى ما يبدو لافتاً من انقطاعٍ للتيار الكهربائي في جزء لا يتعدى المئتي متر. يبدأ بعد شركة الروان قرب الحسبة لينتهي عند جسر سينيق. العابرون سيتساءلون دائماً عن قاطني ألواح الزنك، وسيكتفون بالصورة النمطية المكوّنة لديهم عن هؤلاء «هول نَوَر».
و«هول النَوَر» عبارة عن 40 عائلة فلسطينية ولبنانية، اتخذت من ألواح الزنك بيوتاً لها في «أيام الفوضى» عام 1982. الحاجة مريم داوود (75 عاماً) اشترت أمتاراً قليلة من الأرض من مزارع سوري بـ500 ل.ل! وسكنت هناك، ثم لحقت بها العائلات الأخرى.

يؤكد الأهالي
أنهم تراجعوا عن المخالفات الحديثة التي بلّغوا بشأنها

تروي الحاجة مريم قصتها، التي تبدو أكثر القصص إيلاماً بين جميع القاطنين. هي ابنة مختار الخالصة، تهجّرت عائلتها عام 1948، فلجأت إلى مخيم النبطية، ثم إلى تلّ الزعتر كحال حمادة. «نمنا 31 نفراً بين السماء والطارق تحت أشجار الكينا بالقرب من نهر الأولي، في عزّ البرد. كان المطر ينهال فوقنا... معروف سعد، الله يرحمه سمحلنا نعيش بالقشلة القديمة... ولاحقاً في بناية... تواليت (حمام) أجلَّك ما كان فيها، اضطرينا نفتش عن مأوى ثانٍ. تدينت من العالم مصاري واستأجرت في صيدا، ثم اضطررت للبحث عن مأوى آخر. ومن محل لمحل آخد ولادي وأفتش، وآخر شيء سكنت هون... ع السكة!».
يبدو استقرار الحاجة على السكة المتجهة إلى فلسطين دون قاطرات، مجازاً لعلاقتها الدائمة مع الترحال، قد ينتهي أخيراً عند عودتها إلى فلسطين. تجلس على حافة السكة مادةً ساقيها لتريحهما، «أنا مش فوق القانون ولا بدي كون فوق القانون، كل القصة إنو ما في محل نروح عليه... أنا بس بدي من الدولة اللبنانية تعاملنا كبشر، نحن هون ساكنين مش تحت خط الفقر... نحنا ساكنين تحت خط الإنسانية.. لك أنا هالبيت بنيته كل شبر بنذر بعت أساوري وتدينت من الناس وآخر شي يهدولنا إياه! وبلا بديل؟ وين نروح؟ بدهن نركب بالقوارب ونموت بالبحر؟ نعيش بالشارع؟». تغرق عينا الحاجة بدموع حارقة، ويصمت الأهالي حولها تقديراً للمعاناة.
لكن، لماذا استفاقت الدولة على قرار إخلاء هذه المنازل وهدمها؟
يروي الأهالي أن استدعاء جرى، عبر تبليغ شفهي وآخر هاتفي، من مخفر الحسبة في صيدا، بتهمة اعتداء على الأملاك العامة. وقد حوّل كلّ من ناصر حمادة، وأحمد البلاوي (40 عاماً)، وأحمد زبيب (31 عاماً) إلى بيروت، وأوقفوا لدى الأمن العام، ثم أصدرالنائب العام المالي علي إبراهيم حكمه القاضي بإخلاء منازل الحي تمهيداً لهدمها اليوم.
يقول إبراهيم، في اتصال مع «الأخبار» إن الحكم سببه الاعتداء على الأملاك العامة وارتكاب مخالفات جديدة.
يوضح حمادة، الذي أخلي سبيله ورفيقيه، موضوع المخالفات الجديدة «بنيت 75 حجراً بالعدد، ولما أبلغوني رجعت هديتهن، وقد حضر جهاز المعلومات وصوّر». كما يشرح ما حصل مع أهل الحي: «بالنسبة للحاجة مريم، فقد وضعت لوح زينكو على بعد مترين من عتبة بيتها منذ العاصفة، في العام الفائت، حتّى لا يتأذى أبناؤها من الأغراض التي تطيّرها الرياح، وأيضاً عندما بُلّغنا بالمخالفة قامت الحاجة بإزالة لوح الزنك. وفي ما يخص بلاوّي، فإن الموضوع يعود إلى حوالى شهر حين قررنا أن ننظف الحي، قامت جرافة بتجميع النفايات ووضعها بالقرب من منزله، صُوّرت الجرافة أمام منزله، لكن لا علاقة له بالموضوع. أما زبيب فقد وضع شباكاً لا يتعدى طوله المتر، حتى لا يخرج طفله، ابن الـ3 سنوات، إلى الأوتوستراد!»
مضيفاً، لدى السؤال عن مصير الأهالي بعد هدم بيوتهم يقول ابراهيم: «أنا أيضاً لديّ عائلة ولا أقبل برمي الناس في الشارع، لكنهم تعدّوا على السكة وهم يهدرون المال العام». ويوضح أنه سبق له أن منح الأهالي مهلة، لكنهم لم يسووا وضعهم «ومشكلتهم مع وزارة الأشغال العامة والنقل»، رافضاً تأكيد إن كان سيحصل هدم للمنازل اليوم أو لا.
إلا أن الأهالي يؤكدون انهم لم يتلقوا أي تبليغ سابق، كما أن أحداً لم يعترض على وجودهم. وفيما يلفتون إلى أن مؤسسة الإسعاف الفرنسية هي التي رمّمت بيوتهم، وأنهم يسددون الفواتير لشركة المياه، يتساءلون: لماذا الآن بالتحديد تفتح هذه القضية؟
يشرح وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر لـ«الأخبار» أنه «بحسب القانون، كل ما بني بعد عام 1994 على أملاك الدولة سيطبق عليه القانون»، مؤكداً أن قضية الهدم ليست عنده «ولم يتقدّم أحد من هؤلاء الأهالي إلى الوزارة، ولو أنهم فعلوا كان يمكن إعطاؤهم مهلة».
بدوره، يقول رئيس بلدية صيدا محمد السعودي إنه لا علم له بهذه القضية بل سمعها من الناس. ولدى سؤاله عن مصيرهم قال «لا أعرف، يمكن أن تأتي قوى الأمن وتقوم بالهدم بناءً على قرار النائب العام المالي دون الرجوع إلينا». كما أكد أنه «لا يعرف» شيئاً عن سبب تحريك هذه القضية الآن، وعما إذا كان هناك مشاريع سكنية ستقام على أراض قريبة من التجمّع.
في انتظار الهدم، الأهالي قلقون. الظلام يمتد مسافة مئتي متر حتّى آخر منزل في الحي، هُناك، حيث تحتضن الجدران أسرار الفقر المدقع والليالي القاسية التي مرّوا بها... يشير حمادة إلى عمود كهرباء سقط منذ آخر عاصفة ولا يزال ملقى في مكانه: «أخْبَرنا الجميع ولا أحد حرّك ساكناً!».