حين اخترعت الولايات المتحدة الأميركية «طالبان» الأفغانية بتمويل وهابيّ لوقف الزحف الشيوعي القادم آنذاك على متن الدبابات الروسية، كانت الشعوب الإسلامية تهلّل للمجاهدين الأفغان وتجنّد خيرة شبابها لنصرتهم وتدعو بالنصر المبين لرباني وحكمتيار. لم يكن يومها من الممكن انتقاد أي من الممارسات الهمجية للمجاهدين حتى في الأوساط الشيعية عموماً، والإيرانية على وجه الخصوص، وكأنّ الأمر كان يحتاج لأن يقدم المجاهدون على ذبح الدبلوماسيين الإيرانيين في مجزرة مزار شريف كي تراجع القيادة الإيرانية موقفها ويتوقف خطباء مساجدها عن الدعاء نصرة للملتحين على أعلى جبال العالم.
لكنّ الأوان كان قد فات، ربّما، فقد كان الله قد استجاب لدعوات المؤمنين الصالحين وانتهى الأمر، وغرق الجيش الأحمر في أتون الصواريخ الأميركية الحديثة المضادة للدروع والقاهرة للمروحيات لترفرف راية الإسلام الوهابي محققة معجزة دولة جلد النساء ومطاردة الحلاقين. لكنّ المعجزة الكبرى لهذه الصناعة البائسة كانت دون شك تنظيم القاعدة وما تلاه وصولاً إلى ما يحدث اليوم على امتداد مساحة القهر. كان حريّ بالكثيرين أن يسحبوا دعواتهم وصلواتهم وابتهالاتهم إلى السماء بأن تنصر حكمتيار، وأن يستبدلوها بدعاء النصر للشيوعية السوفياتية آنذاك، فربّما لو فعلوا هذا في حينه لكانت الأمور مختلفة عمّا هي عليه اليوم. فلماذا لم يفعلوا طالما أن الله يجيب الدعاء. على العكس تماماً فمن لم يتعلم الأمثولة التاريخية القاسية هو ذاته من يدعو ربّه اليوم لينصر حماس غزة وأن يقيم نهضة تونس من غفوتها وأن يترحّم بإخوان القاهرة.
كم يحلو لعشّاق الأسطورة أن ينسبوا اندحار الشيوعية إلى الهزيمة السوفياتية في أفغانستان، لكن لا يتنبّه عشاق الأساطير إلى أن دولة السوفيات البائدة هي صانعة روسيا الحديثة التي تمتلك عشرة آلاف رأس نووي قادرة على الإطاحة بالكرة الأرضية مرات ومرات. لكنّ روسيا ليست فقط رؤوساً نووية بل هي مكسيم غوركي وتولوستوي وفلاديمير إيلتيش لينين، وهي روسيا الساحة الحمراء وروسيا خروتشوف الذي صفق بنعليه من أعلى محفل دولي استهزاء بالنظام العالمي الساقط الذي أنتج كلّ هذا الكون البائس. وهو كون ازداد بؤساً منذ أن أعادت الرأسمالية الغربية إعادة إنتاج الإسلام السياسي لاستخدامه في مواجهة روسيا بالذات في نهايات القرن الماضي. وهو ما عُرف بالحالة الإسلامية. هذه الحالة التي تحتضر اليوم تحت وطأة ضربات السوخوي الروسية بعد أن تحولّت إلى صراع مذهبي هو الأبشع ربّما في تاريخ الإنسانية. فما يقوم به الروس اليوم هو فعل قداسة، بالمعنى الحرفي للكلمة، فلم يكن من الممكن حتى التفكير في نهاية لهذه المذبحة في ظلّ استخدامها المتواصل منذ عقود لفرض السياسات الأميركية وهي لا تفعل إلّا إعادة تشكيل لتوازانات تضمن المراوحة في التخلف الأسطوري لشعوب فقدت القدرة على التفكير تحت وطأة تأثير الأفيون القاتل.
التدخل الروسي المباشر هو دعوة صريحة للعقلانية، لمراجعة الخطاب الغيبي الضبابي، وقبل كلّ شيء للتوّقف عن التنظير في «الحالة الإسلامية المباركة» التي أنتجت كلّ هذا الهراء، فهدير الطائرات الروسية الحازم في سماء سوريا (وقد يكون قريباً في سماء العراق) يؤكد الحاجة للأخ الناضج وينفي مفهوم استقلالية «الأمة الرشيدة» التي لم تنتج شيئاً أفضل من ملايين المذبوحين وملايين المشردين وإعادة صياغة الكوليرا وهي تفتك اليوم ببغداد. فلن يجدي تكرار التجربة مئات المرات طالما أنّها تأتي دوماً بالنتيجة ذاتها، فما نحتاجه هو لقاح حضاريّ يطيح ولو بالقوة المدمرة بهذه الكهوف السوداء التي جعلت منا ما نحن عليه. فليكن دعاء لنصرة الصواريخ التي تدكّ جحافل قاطعي الأيدي وراجمي النساء وصالبي الأجساد وقاتلي المخالف وليسقط كلّ مفهوم لا يؤمن بوحدة الإنسان ووحدة الطريق. فالطريق إلى المدنية طريق واحد، وهو يمرّ عبر إزالة كلّ هذا الوخم البائس وإلّا فانتظروا الطاعون.
* كاتب لبناني