يتقلّص تدريجيّاً حضور المدارس الإسلاميّة المتوارثة تاريخياً لضعف وجودها في الفضاء السياسي ـ الإعلامي بشكل لا يتناسب مع انتشارها الجغرافي نتيجة لمسببّات وعوامل عديدة، كسطوة إعلام النفط وفرضه لنموذج طارئ من نسخة إسلامية «وهابيّة» مستحدثة على وقع انهيار الخلافة العثمانية الماتريديّة الحنفيّة.
ومن هنا، يتم التّرويج لنماذج معيّنة من الأفكار ـ المجموعات الوهابيّة (وتلك القابلة للاحتواء الفكري السياسي) وفي الوقت نفسه يتم وضع فيتو إعلامي على كل ما عداها لنكون أما مشهد بصورة واحدة. وإن حضر ما عداه تتم شيطنته عبر وصمه بالميليشيا أو ربطه بالقوة الغازية المحتلّة، فنكون أمام واقع افتراضيّ ترسخت فيه الأيقونة الوهابيّة.
حدث هذا على سبيل المثال في العراق حيث كان الصّيت في مقاومة الاحتلال الأميركي لتنظيم القاعدة وفصائل أصرّ بعض الإعلام على طابعها السّلفي الوهّابي (حتى تلك التي لم تكن سلفيّة ـ وهابيّة قبل الاحتواء كالجيش الإسلامي) على حساب من كان لهم فعل الصّدارة ما بعد 2006 بحسب جنرالات الاحتلال (بيترايوس، أوديرنو، لاينش، كروكر...) أيّ العصائب وكتائب حزب الله والنقشبندية (الأخيرة بقيت سنوات قبل خروجها للضوء بالتوازي مع ملشنة ما قبلها). وفي الصّومال كانت نجم المشهد ورأس حربة «المقاومة» حركة شباب المجاهدين المنشقّة عن اتحاد المحاكم الإسلاميّة مقابل غريمها «تنظيم أهل السنة والجماعة» الصوفيّ الذي قدم كعميل لإثيوبيا!
كذلك اختصرت الشّيشان في سرديّات الإعلام العربي وإسلامييه بـ«بطولات» باساييف والسّعودي خطّاب على حساب الأغلبية النقشبنديّة المعادية لهم مذهبيّاً (واستطراداً غابت أخبار اغتيالات عدد من علماء الشيشان الماتريديّة والأشاعرة على يد الوهابيين، إضافة إلى اغتيال مفتي داغستان الشيخ ابو بكروف)، وما يجري في سوريا من ترويج فجّ لتنظيمات متوهّبة تمت أيقنتها كرافعة لواء الحريّة واختراق النسيج الماتريدي الحنفي العريق فيها. حدث هذا أيضاً في البوسنة حيث جيّر «انتصارها» عبر تضخيم طيف من «المهاجرين» وغاب دور الحرس الثوري في تعديل كفة الحرب وبعض معاركها كبانيا لوكا بشهادة بيغوفيتش (الصّوفي) نفسه الذي غيّبت رسالته الإسلاميّة.
بينما في نيجيريا موضوع بحثنا، تحضر «بوكو حرام» بكثافة مقابل غياب تام من المشهد الإعلامي لـ«الحركة الإسلامية في نيجيريا» الأقدم حضوراً والأكثر انتشاراً.
إذ سجّل أيضاً نجاح ميديا النّفط في سياق خلط الأولويّات ليتماهى بعض العقل العربي ـ الإسلامي مع نمطيّة معينة من صورة رجل الدّين الروزخوني، ذي الكاريزما اللسانيّة رغم كونه نتاج كيانات أوجدت لمساهمتها بنجاح في فكفكة الطوق العثماني حول فلسطين. وقد كانت ملفتة الحفاوة الجماهيريّة التي استقبل أحد ممثلي هؤلاء «الشيخ محمد العريفي» في الأردن - إحدى دول طوق فلسطين. وفي الوقت نفسه من يقدّم الدماء للقدس في يومها، خارج جغرافيا الصّراع المتعارف عليها، بعيداً عن طوقها وخطوط إمدادها وبصمت مطبق عربيّاً (وفلسطينياً)، فهذا أمر يستحقّ الخوض فيه.
34 ضحيّة من الحركة الإسلامية في نيجيريا، بينهم ثلاثة من أبناء أمينها العالم الشيخ إبراهيم زكزكي سقطوا خلال إحياء يوم القدس في القارّة السمراء.
يوم كأيّ من أيام قدس ضاحية بيروت ما قبل تموز 2006: جماهير، وشعارات، وعروض عسكريّة، ورايات صفراء بعضها لحزب الله اللبناني، وصور أمينه العام وشيخ شهداء فلسطين أحمد ياسين... لكنّ حَمَلتها والمستعرضين ليسوا مشارقة ولا عرباً بل أفارقة.
كان ذلك في مدينة زايرا في ولاية كادونا النيجيرية، إحدى مدن الهوسا السبع الرئيسية. لا رابط جغرافياً، ولا قومياً، أو تاريخياً تربطهم بنا وبفلسطين التي لا يعرف معظم أهلها بالهوية المليونية للهاتفين باسمهم في أكبر تجمع سنوي يقام في افريقيا، حيث يحتشد فيها إضافة إلى أكثر من 20 مدينة نيجيرية مئات الآلاف سنوياً (لتشكّل مع ايران، واليمن وباكستان أكبر التجمّعات السنويّة ليوم القدس). لكن الإحياء الرابع والثّلاثين خلال يوم جمعة رمضان الأخير 25/7/2014 لم يمر بسلام، حيث نفّذ جنود نيجيريّون مجزرة بالرّصاص الحيّ قتل على إثرها 20 من المتظاهرين فوراً، أحدهم كان محمود زكزكي نجل الشيخ إبراهيم زكزكي، وآخرون تمّ اعتقالهم وتعذيبهم بالصعق الكهربائي والطّعن بالسكاكين حتى الموت، ليلتحق الأخوان أحمد وحميد زكزكي بمحمود رافعين العدد لـ34 ضحية، كاد الأخ الرّابع علي زكزكي أن يكون في تعدادهم حين اعتقد القتلة بوفاته بعد رميه مع باقي الجثث، لينجو ويكون شاهداً حيّاً على جريمة الجيش الذي حاول النّاطق باسمه التملّص منها. ولكن بعد توجيه الاتهام لهم، أي للجيش وللحكومة الفدرالية، رضخت الأخيرة ولم يجدا بدّاً من فتح تحقيق زعما فيه أن الحادث عرضيّ وأنّه كان في معرض الدّفاع عن النّفس بعد التعرّضه لإطلاق نار رغم عدم تقديمهم أيّ دليل يفنّد المشاهد المصوّرة، وعدم وجود أي إصابة ولو طفيفة في صفوف القوّة المهاجمة.
الهجوم الذي تلاه بأربعة أيام تفجير انتحاري عند صلاة المغرب في المركز الثقافي في ولاية بوتيسكوم وقتل فيه 4 أشخاص لم يكن الأوّل نيجيريّاً وإن كان الأقسى، فقد سبقه هجومان خلال سنوات خلت (سجّل في اليوم نفسه أيضاً هجوم آخر في محافظة ذمار اليمنيّة خلال احتفاليّة للمناسبة نظمتها انصار الله وسقطت ضحيّتان).

من هو «الأمين العام»

هو الشيخ إبراهيم بن يعقوب بن علي بن تاج الدين بن حسين، الملقّب بالزكزكي نسبة لمدينة زكزو. جدّه الأكبر الحسين الملقّب بالإمام كان وزيراً لمندوب زعيم حركة الجهاد والإصلاح الشيخ عثمان بن فوديو مُؤَسِّس وسلطان خلافة سوكوتو، والأخير يعدّ مع أخيه الأصغر المفسّر عبدالله بن فوديو الأكثر تأثيراً في وعي إسلاميي الشّمال النيجيري.
رفدته أفكار السّيد قطب وتجربة الإخوان المسلمين بأبعادها، وزاد رصيده باستلهامه أطروحة الإمام الخميني. لن تبقى تلك التحوّلات أسيرة النظريّات فقد دبغت الحراك الطّلابي الذي قاده ابراهيم زكزكي ليخرج من زوايا جامعة أحمد بن بلو، متصاعدة ديناميكيّته تدريجيّاً لتتوسّع حركته جغرافيّاً بالتوازي مع تجسّد المطالب حضوراً ووضوحاً وأولويّات. قضيّة القدس المركزيّة، انتقاد للرأسماليّة والاشتراكية بالتوازي مع مطالبته بالعدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفقر. قاد تظاهرات ضد اوبساناجو ووما (اي ضدّ «الديكتاتوريّة النيجيريّة») لتبدأ رحلته بين السّجون في عهد شاغاري، ثم الجنرال محمد بحاري، فالجنرال بابانجيدا لمرّات خمس متتالية ولسنوات قاربت الـ10، كانت فيها أفكاره تتزايد انتشاراً بين طلاب الجامعات والشباب ليخرجوا بالآلاف معترضين بُعيد يوم من اعتقاله الخامس (12/9/1996) على يد قوات الجنرال أباشا التي قتلت 14 منهم. رصاص لم يوقف زحف حالة الاعتراض التي خرجت بعدها في مركز كادونا بيومين، لتسقط 24 ضحيّة أخرى من دون أن يتمكن لوبي ضغط الدّماء والجماهير من تحقيق مطالبه إلّا بعد سنتين بقي فيها زكزكي نزيل السّجون قبل الإفراج عنه من قبل الجنرال عبدالسلام ابو بكر.

لم تنجرّ قاعدة الحركة الشعبيّة إلى الصدام الديني ما بين الشمال والجنوب
تمازج ثلاثي إيديولوجيّا المظالم ـ الكتلة المندفعة ـ الدّماء مع شخصيّة ابراهيم زكزكي وخبرته التراكمية أوجدت بنية صلبة لحركة إسلامية هي الأسرع نموّا وديناميكيّة وتحشيداً في القارّة السمراء.
لم تعدّل أولويّاتها تبعاً لتقادم الزّمن وتفاعل الظروف رغم محاولات فرملة اندفاعها وحرفها عن مسارها من بعض حكومات الولايات الفديرالية عبر قوات الجيش تارة، وأخيراً عبر «بوكو حرام» التي تتهمها أوساط الحركة الإسلامية اتهامات مشابهة لتلك التي تكيلها انصار الله اليمنيّة ضد انصار الشريعة ـ فرع القاعدة اليمني (وداعش المستحضرة مؤخراً)، من كونها مجرد واجهات لجهات استخبارية تعمل على إفراغ جغرافيا منابع النفط في ولايتي بورنو ويوبي.

«استنساخ حزب الله»

كتب يعقوب زين لأحد مراكز الدراسات (24/10/2013): «رغم مسافة نيجيريا الجغرافية والثقافية من إيران، ليس هناك منطقة خارج منطقة الشرق الأوسط، حيث لإيديولوجية إيران تأثير أكبر مما هي عليه في شمال نيجيريا». «تأثير» كان مبعث قلق لأفيغدور ليبرمان خلال زيارته للعاصمة أبوجا، لتتهمه أوساط الحركة بالتحريض ضدّها، وهي التي ما فتئت تتعرّض لما تعتبره تحريضاً مستمراً من جهات إسرائيليّة وأميركيّة والمرتبطين بهما نيجيريّاً لاعتبارها «استنساخاً لحزب الله اللبناني» وخطراً رئيسياً على مصالح تلك الدول. ويلفت في هذا المجال زجّ اسمها أيضاً عند كل عمليّة مصادرة سلاح في تلك القارّة.
اتّهامات ذات طابع سياسي ـ إعلامي ـ ديني، واستهداف جسدي من اعتقالات لقياداتها وعناصرها الذين أعلنت مقتل قسم منهم في السجون إلى عمليات اغتيال، كتلك التي تعرض لها امام ولاية يوبي في الحركة مصطفى لوان ناسيدي في هجوم نجا منه وقُتل شقيقه وسائقه و2 من المصلين، لتدمير بعض مراكزها من الأمن كما في سوكوتو (31/7/2007)، وليس آخراً عمليات تفجير بعبوات وانتحاريين خلال إحياء نشاطات كهجوم عاشوراء في ولاية بوتيسكوم (3/11/2014) الذي قتل فيه 27 شخصاً (22 بتفجير انتحاري و5 برصاص الأمن النيجيري). يضاف هذا كله لتكرر محاولات التعرض الشخصي لابراهيم زكزكي عبر عدة محاولات اغتيال واعتداء، آخرها محاولة استهداف موكبه في 26/7/2015 بين كادونا وابوجا.
محاولات استهداف أصرّت على إثرها على الثبات وعدم فقدان التّوازن والانكفاء أو لقرارات ارتجالية، واستمرّت الحركة في مدّ جسور التّواصل السياسي الاجتماعي والثقافي. فرغم الاتّهامات بالارتهان لإيران وحزب الله النموذج ـ القدوة بالنسبة لهم، والعداء المعلن للسياسات الغربية ـ الصهيونية شكّلت شبكة علاقات سياسية وحقوقية إقليمية كزيارة سفير الاتحاد السويسري السيّد هانز رودولف هوديل مؤخّراً وغيره من السفراء ومئات الشخصيات لمنزل قائد الحركة للتعزية بأبنائه بعد حادثة يوم الجمعة.
ولم تنجرّ قاعدتها الشعبيّة للصّدام الطبقي أو الديني والعرقي ما بين الشمال والجنوب، وبقيت علاقات التواصل مستمرة مع مختلف الكنائس النيجيرية حتى الإنجيلية منها المتهمة بـ«التبشير» من قبل بعض الشّمال (والعكس)، وتنظيم نشاطات مشتركة إسلامّية ـ مسيحيّة (الاحتفال بميلاد المسيح)...
كذلك، تتميّز الحركة الإسلامية بمركزيّة وتنظيم حديدي، تضمّ بين صفوفها خليطاً متنوّعاً مذهبيّاً من الإماميّة وأتباع التصوف القادري والتيجاني من المالكية وغيرهم. وتقدّر حاضنتها الشعبيّة ما بين 4 الى 10 مليون (ورد في تقرير لمركز السياسة الأمنيّة الأميركي 3/11/2014). يتفرّع منها عدد من المؤسسّات مقسمة ما بين الحراس، ولجنة العلماء الاكاديميين، واللجنة التجارية، واللجنة التنموية، واللجنة الطبية، والمؤسسة التعليمية.