يكتب الشاعر المصري عماد فؤاد إهداءً على صدر الصفحة الأولى من عمله الجديد «إلى هاني درويش: هذا ما وعدتك به، وها أنا أفي بما وعدت». الصحافي المصري الراحل (1974 - 2013) كان صديق الكاتب و«عشرة عمر» بينهما، وكلاهما مولود في العام نفسه. سيكون لهما لقاء أخير في برلين. من هناك، تنطلق «الحالة صفر» (ميريت - القاهرة) بدعم معنوي من جهة الكاتب والصحافي درويش الذي يعود بعدها إلى القاهرة حيث تنتهي حياته خلال أيّام إثر نوبة قلبية قاتلة، ولم يكن بعد قد فتح حقائب سفره.
يعترف صاحب «حرير» (2007) بأنّ درويش كان وقوده المعنوي ودافعه كي يُكمل «الحالة صفر»، وكان درويش أول من اطلع على جزء كبير منها: «قبل ذلك، كان العمل فيها يسير ببطء» يقول لنا الشاعر المُقيم في بلجيكا منذ سنوات، مشيراً إلى عامل الزمن الذي كان يقتله مع مرور الوقت وشعوره بتكوّن طبقة سميكة بينه وبين فكرة كتابة رواية: «طبقة من الخوف وعدم القدرة على تحمل مسؤولية بهذا الحجم».
وعليه، لم يكن سهلاً ذلك الطريق الذي سار عليه كاتب «تقاعد زير نساء عجوز» (2002)، حتى يُنجز روايته الأولى، وهو الشاعر الذي أنتج خمس مجموعات شعرية إضافة إلى أول أنطولوجيا للنص الشعري المصري الجديد بعنوان «رعاة ظلال.... حارسوا عزلة أيضاً» (2007).

سيبقى السرد مُعتمداً في تنقلاته على تفصيل صغير

من هنا، ستبدو فكرة الهذيان والاشتغال عليه وسيلة للنفاد من كوابح تجارب السنوات الماضية والعمل على اشتغال سردي مختلف. منذ العتبة الأولى لـ «الحالة صفر»، ستُطل رائحة دخان نبتة الحشيش المُخدِّرة بقوة. لهذا، سيكون علينا محاولة ضبط تركيزنا وخطواتنا ونحن نغادر من صفحة إلى أخرى متتبعين تنقلات الدخان الذي تقوم ميشيل بروايته، وهي الصوت المرتفع في العمل بالتوازي مع تداخل صوت صديقها، الراوي المُساند. وكل ذلك يجتمع ليحكي رحلة زراعة نبتة حشيش في غرفة. لكن السرد التالي سيبقى مُعتمداً في تنقلاته وبدرجة أساسية على تفصيل صغير؛ حيث باولا (والدة ميشيل) التي سنعرف عبرها كيف أنّ ابنتها ولدت من بذرة رجل لا تعرفه، إذ كانوا كثراً ولم تكن قادرة على تمييزه.
في سنوات عمرها الأولى، ستلقى الابنة نفسها على مقعد خلفي لسيّارة عتيقة وهي تنتقل من جنوب بلجيكا إلى أمستردام، وهناك: «انتبهتْ للمرة الأولى الى الفرق بين رائحة دخان الماريغوانا ورائحة التبغ العادي».
كل شيء تالياً سيظهر حتى من خلال تقسيم جهات «الحالة صفر» الموزعة على كيان النبتة ذاتها: الزهرة، الورقة، الساق، الجذر، البذرة. كأنه محاولة لتثبيت حالة السرد عند مستوى الهذيان ذاته بما يتيح إلغاء الحكاية التقليدية وكل ما يتعلق بها من أمكنة وزمن.
على الرغم من إشارات هنا وهناك لأمستردام ومدن أوروبية وعربية أخرى، إلا أنّها ستظهر قليلة وغير واضحة المعالم. وقد حصل هذا بشكل متعمد من جهة الكاتب الذي يؤكد لنا أنه لم يكن معنياً من الأساس بمسألة توضيح هوية الأماكن أو زمن السرد المتعلق بها: «كنت أسير بهدف اغتيال فكرة الحدوتة التقليدية وما له علاقة بها من عناصر وسياق أحداث تأتي من نقطة أدنى وتذهب في ارتفاعها تصاعدياً». مع ذلك، سيبدو واضحاً إصرار كاتب العمل على بقاء حالة الشعرية مسيطرة على أجواء غالبة من رحلة السرد وهذا بحسبه كي تأتي متسقة مع حالة الهذيان السائدة خلالها... حالة لم تكن لتتحقق إلا بمساعدة من الدخان نفسه.
في هذا السياق، سيبدو من الممكن الحديث عن تعمّد شاعر «أشباح جرَّحتها الإضاءة» (1998) ذهابه في وصف حالة الهذيان تلك كي تأتي مخففة من أثقال السيرة الذاتية التي تأتي على هيئة خيار مُتاح بوفرة أمام أديب مُهاجر عليه واجب الحديث عن حالة الاغتراب التي خاضها في بنية البيئة الاجتماعية التي انتقل إليها. لكنه يخبرنا هنا أنه لم يسعى لذلك مُطلقاً، بل على العكس «لقد كانت الرواية محصلة لحالة التأقلم التي بلغتها في أرضي الجديدة». مع ذلك، يرى صاحب «عشرة طرق للتنكيل بجثَّة» (2010) إن مسألة ربط «الحالة صفر» بكونها سيرة ذاتية قد يأتي فقط انطلاقاً من كونها مكتوبة نتيجة خبرات شخصية تراكمت في حياته، لكنها لا تعنيه على نحو شخصي أو باعتبارها سرداً لتجربة كاملة بعينها.