مجدداً تستوقفني الأحداث العنفية المتتالية في لبنان، كما في بلدان عربية عدة، لأحاول قراءتها وأحلل تأثيراتها علينا، لكن هذه المرة من منظور نفسي أكثر منه حقوقياً أو سياسياً. بداية، لا بدّ من القول: إن هذه التعابير العنفية التي تستهدف أمننا، وحياتنا اليومية بكلّ تفاصيلها، والتي لا تتوقف على الهلع والغضب والدموع، وكل ما يضاف إلى كمّ كبير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها، تولّد لدينا انطباعاً، لا بل اقتناعاً، بأننا فقدنا حرية قرارنا بما يخصّ حياتنا وأننا عاجزون عن تغيير واقعنا، الأمر الذي يقنع البعض منا، وخاصة الشبيبة، بأن المستقبل يجب أن يصنع في مكان آخر بعيد، ومن أجله يمكن، ويجب، تحمّل كل الصعاب، بما فيها احتمال فقدان الحياة.
وكأنّ الصراعات السياسية لا تكفي اللبنانيين، كما لا يكفيهم الجري لتأمين المتطلبات الحياتية، والذي يفضي إلى الإنهاك وتفريغ الطاقات، وبالتالي بروز العدوانية ضد الذات والآخر. فكان لمخاطر التغير المناخي أن تضيف مشاكل أخرى، مع ضغوط إضافية على المحاصيل الزراعية، وشحّ الموارد المائية، وانتشار النفايات والأوبئة، بما يستتبعه ذلك من خطر على حياة الناس وصحتهم ومواردهم، ومن تزايد في الهجرات، ومخاطر نشوب الصراعات.
في كل هذا ما يمكن أن يفقد المرء ثقته بنفسه، وبالعالم من حوله، عالم ننتمي إليه كمستهلكين وليس كصانعين. فيه أيضاً ما يستهدف الرغبة بالحياة، والشجاعة لمواجهة المصاعب والتصدي للخوف من الموت والقلق الوجودي.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: على من يتكئ البشر في عالم ينهار من حولهم عندما تنعدم ثقتهم بمن يتبارون لجعل الدولة، أو لنقل النظام القائم، فاشلاً، وعندما يسقط من عليائه من يجسّد صورة الأب، المثال الأعلى؟
يعلّمنا علم النفس أن ثقة الإنسان بنفسه قد تجعله يجترح المعجزات، وأن المرء يبني، على وجه الخصوص، هويته من خلال نظرة الآخرين له، ومكانته لديهم (هم الأهل في بداية المشوار). فعدم الرضى عن النفس، مهما بلغت الإنجازات، يتأتّى من الصورة السلبية المنسوجة عن الذات، وهنا مكمن الدّاء. فحيث لا يخلق الناس متساوين في الواقع، وحيث لا ننفك نحيك ذواتنا قطعة قطعة، طوال عمرنا، يكون الانطواء على الذات ملجأ الكثيرين. وبالطبع، المظهر الخارجي قد لا ينبّه معظم الأحيان إلى أن داخل البنيان يفتقر إلى عمود فقري متين قد يعرّضه للانهيار. ففي عالم يتهددنا، وفي ظلّ هذه الفوضى العارمة، والصدمات النفسية المتتالية المتأتية عنها، كثيراً ما نلجأ إلى تنفيس العدوانية بإيذاء الآخرين، وإنكار حقهم في الحقوق والحريات نفسها التي نطالب بها لأنفسنا. لنكتشف أنّ هذه العدوانية، التي نعتبرها نوعاً ما اعتيادية، من الصعب التأقلم معها. ذلك أنها تسبب القنوط، والإحباط، وما قد يودي إلى الانهيار النفسي، عندما لا تجد النفس المقومات المطلوبة لصدّها، وعدم التأثر بها.

الاقتناع بأنّ الآخر ليس سوى صورتنا
في المرآة هو فعل مقاومة


أما الرد بالمثل، أو عدم المواجهة، فكلا الأمرين يفقد المرء شيئاً من شعوره بالكرامة الشخصية. فالانصياع للرغبات والأوامر، الحاطّة بالكرامة، لا يعني بالضرورة القبول والرضى، بل التراجع في لحظة ضعف، ليجد المرء في ما بعد الطريقة التي ينتقم فيها لذاته. وحينها قد يكون الردّ أعنف وأخطر، حتى مع الأشخاص الذين نحبهم. فالحب والكره كما نعلم وجهان لعملة واحدة. هناك من ينجح في حياته المهنية، لكن هل الجانب المهني، أو التألق العلمي، هو كل شيء في حياة المرء؟ من المعلوم أنّ البناء النفسي لا يرافق، أو يتطور بالضرورة بموازاة البناء الفكري. أما اهتزاز الثقة بالنفس، فقد تغطّيه مظاهر العجرفة، وما ينطوي عليه اللاوعي من مكنونات.
غالباً ما نتجاهل أن الثقة بالنفس تفترض البدء بالثقة بالغير. فالشعور بالاطمئنان الداخلي يتأتّى من تربية الأهل، وثقتهم بالطفل، وبقدراته وما يمتلكه من مقومات. لقد أثبتت الدراسات النفسية أن تعريض الطفل للكآبة الشديدة، والمتكررة، في بدايات عمره يؤثر جداً على نموّه. فالـ»كورتيزول» الذي يفرزه جسمه حينها له تأثيرات سامّة على دماغه، وعمل خلاياه، وتواصلها في ما بينها، الأمر الذي يترك بصماته على قدرته على التعلم والتذكر، والذي قد يشهد تراجعاً.
كذلك، حين لا يكون محيطه حاضراً لإحاطته بالمحبة والترويح عنه، ولا سيّما قبل عمر السنتين، يكثر احتمال الإصابة بالالتهابات المتكرّرة، وضعف القدرة على التنفس، ووجع الرأس وتراجع الشهية والقدرة على النوم، فيحضر في الذهن الشعور بعدم الاطمئنان للمحيط، وتظهر علامات القلق، وانفجار الغضب من دون معرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك. لكن، هل نستطيع أن نطالب الأهل بأن يكونوا دوماً الصخرة التي يقف عليها البنيان في ظلّ الصدمات النفسية التي يعيشونها؟ بكلّ الأحوال، في هذه الهشاشة ما يمكن أن يفسح مجالاً لعقلية الكسب الرائجة بشتى الأشكال المتاحة، على حساب التضحية بالأخلاقيات، والقيم، والانتماء للوطن، وتأدية الواجب تجاهه. فتصبح قيمة الإنسان في ما يكنزه من رصيد مالي، ومجد شخصي، ولو على حساب العواطف والحب والعائلة، وكلّ ما يمنح الوجود شاعرية وجمالية. ذلك في حين أنه يمكن الاستغناء عن أشياء كمالية عديدة لو غاب همَّ الاقتداء بالآخرين، واستيعاب أن القيمة الشخصية لا تقاس بذلك.
تضخم ظاهرة النفاق الاجتماعي، وإيلاء الأهميّة للمظاهر، ولو كانت تبعاتها تتخطّى قدراتنا الحقيقية، فيها ما يخلق أزمة في معاييرنا الاجتماعية. إنها اختيار للمعاني القيمية، التي تزيد من الشعور بالعجز، وتدفع إلى الدوران في حلقة مفرغة. فمن الصعب إيجاد الإمكانات الذاتية لتأمين كل المتطلبات الحياتية، والتحكم المطلق بالواقع. والأصعب من ذلك، السيطرة على مسار المستقبل. فهل حياة كهذه جديرة بأصحابها؟ من المؤسف أن هذه العقلية تطالعنا في شخصيات نسبة كبيرة من أولئك الذين يحكموننا، أو يقررون مصائرنا، بحكم مواقعهم التي انتدبناهم لها، عبر ما يسمّى «اللعبة الديموقراطية». ويمكن أن يكونوا قد انتزعوا هذه المواقع من دون جدارة، بل بقوة المال أو الاحتيال، وباستعمال الغير. أما الشعور بتضخم الأنا، فهو يحرمنا من اختبار أهمية الآخرين في حياتنا، وبناء التضامن واللحمة الاجتماعية الكفيلة بحلّ الكثير من المشاكل الفردية والمجتمعية. فماذا لو، بدلاً من فقدان الثقة بالآخر واستعدائه، حاولنا التقرب منه والتعرف إلى حقيقته، وخاصة عندما يكون شريكنا في الوطن نفسه؟ ألا يصون ذلك عالمنا ويجعله أكثر ألفة وإنسانية، مثلما يحافظ على ذواتنا؟ أليس احترام الغير، كما الذات، شرطاً أولياً للتعايش بين البشر، في حين أن تغييب الآخر مدعاة للانكسار والمواجهة، ولو كان الرد بمجرد الإهمال، والصمت القاتل؟ ماذا لو سعينا إلى الاستفادة من الوقت الراهن، والاستمتاع بكل لحظاته، بما يعود بالنفع على النفس والمحيطين بها، بدل الجري الدائم وراء التحصيل المادي على حساب ما عداه؟ من المؤكد أن البحث عن الممكن وإنجازه، كما تضامننا مع أترابنا، ودفاعنا عن وجودنا الجمعي، كفيل بإدخال السعادة إلى قلوبنا، وامتلاك الشعور بالقوة، والثقة بالنفس، واستعادة الذات. إنّ حبّ الآخرين، والقفز فوق الخطوط الوهمية الفاصلة، التي رسمناها في مخيلتنا، عمن تصورناهم مختلفين، والتقرّب منهم والتعرف إلى حقيقتهم، فيه ما ينقذنا من الضياع الوجودي، وما يعطي معنى لحياتنا، ويوحّد صفوفنا بمواجهة الأخطار المحدقة، ويعيد إلينا أوطاننا السليبة.
الاقتناع بأنّ الآخر ليس سوى صورتنا في المرآة، هو فعل مقاومة. فمن يرسمون سياسات «فرّق تسد» و»تقسيم المقسّم» على أسس عرقية وطائفية، ويوغلون في تعظيم الهويات الفردية، يعرفون ماذا يفعلون. لكن، هل هم بمأمن من ردود أفعال الشعوب، وتجنب الوقوع ضحية سياسات المواجهة لمخططاتهم هذه؟ أليس هؤلاء المقاومون بالتحديد هم من يحرّرون الأوطان، وينقذون الإنسان من التدمير الممنهج الذي تعتمده قوى كبرى ينتابها شعور مرضي بالعظمة، وهو الذي سيستعجل زمن أفولها؟
لحسن الحظ، أننا في لبنان حبانا الله بشريحة من المسؤولين السياسيين، ومن المجاهدين والمناضلين، الذين وضعوا في مقدمة اعتباراتهم مصلحة البلد. قوى تتحلّى بالصدق في التعامل، والتفاني في الذود عن الوطن، مثلما تمتلك الفكر والاستراتيجيا، والإيمان بالنصر على التحديات القائمة. وهؤلاء لا يتوانون، في سبيل ذلك، عن التضحية بالذات، وتقديم أبنائهم للشهادة، بمواجهة العواصف العاتية، ولوقف هذا التدحرج المخيف إلى الهاوية. لقد أحرزوا على قوى الشرّ انتصارات باهرة، يعترف بها العدوّ قبل الصديق. فخالص التحيّة لصمودهم، وأسمى عبارات الشكر لتضحياتهم، وللدفاع عنا جميعاً، بغض النّظر عن الخندق الذي تمترسنا به.
* كاتبة لبنانية