قبيل انتهاء مهلة الـ 72 ساعة التي حددتها حملة «طلعت ريحتكم» للحكومة اللبنانية لتنفيذ مطالب عدة؛ من ضمنها استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، قرر ناشطو هذه الحملة، وإلى جانبهم زملاؤهم من حملات أخرى، «اقتحام» مكاتب وزارة البيئة في العازارية (وسط بيروت) أمس. عملية الاقتحام أو «الاحتلال» كما رددت بعض وسائل الإعلام اللبنانية؛ بينها mtv (عنونت خبرها «بالفيديو «طلعت ريحتكم» تحتلّ وزارة البيئة»)، واكبتها كاميرتا «الجديد» وlbci رأسَيْ حربة «الثورة» التي تحصل في بيروت اليوم.
بدأ البث بصور ثابتة التقطت من كاميرات الهواتف لتتحول إلى بثّ حيّ من الداخل. اصطف المعتصمون في رواق الطبقة الثامنة، حيث مكاتب الوزارة، مفترشين الأرض وهاتفين بشعارات عدة تطالب بتنحي المشنوق. مشهد هذا الاعتصام كان أشبه بنقل لمجريات أحد برامج « تلفزيون الواقع». وبعد هذه «الهيصة» بهذا الاقتحام، انقلب المشهد مع استقدام المزيد من عناصر القوى الأمنية وقوى «مكافحة الشغب» التي أقفلت مداخل الوزارة ومخارجها، فقسمت بذلك المشهد الى اثنين: الأول: مجموع المعتصمين، ومعهم مراسلا «الجديد» (رامز القاضي) وlbci (فتون رعد)، والثاني خارج المبنى حيث تداعى ناشطون آخرون على مواقع التواصل الاجتماعي بغية مؤازرة المحتجزين. في النهاية، رست الصورة على مشهدين منقسمين ميدانياً، على شاشات الإعلام من الداخل والخارج، تتصدرهما قوى الأمن التي أقفلت منافذ الوزارة، ومنعت دخول أو وصول أحد الى الطبقة الثامنة.
في الباحة الخارجية، أصوات الشباب المتضامنين ومعهم بقية وسائل الإعلام المحلية والعربية والإقليمية التي حولت هذه الباحة الى «هايد بارك» لهؤلاء كي يعبروا عن آرائهم الغاضبة والشاجبة. سريعاً، تحولت المطالب من استقالة وزير البيئة الى تزويد المعتصمين بعبوات المياه، وفتح أبواب الحمامات بعدما حوصروا في الرواق وسط انقطاع للكهرباء والمكيفات أيضاً. باتت الألسن ومن ورائها وسائل الإعلام تردد هذا المطلب في مشهد يعيد إلى الأذهان فيلم «الإرهاب والكباب» المصري الذي يصوّر احتلال مجمع حكومي (التحرير) والتفاوض بعدها مع الطاقم الحكومي على استجلاب الطعام من كباب وكفتة، وحتى بعضهم طلب تأمين أدوية له... كل ذلك لتصوير مدى القهر الذي يعانيه الشعب المصري وحرمانه من أبسط حقوقه المعيشية.

بدأ البث بصور ثابتة التُقطت من كاميرات الهواتف لتتحوّل إلى بثّ حيّ من داخل وزارة البيئة

لا شك في أنّ هذا الفيلم كان شريطاً بطاقم تمثيلي وإخراجي لإيصال هذه الفكرة السامية. لكن ماذا عمَا حصل في بيروت، وتحديداً في وزارة البيئة مع الأخذ والرد بين المعتصمين والوزير، وبينهما القنوات المحلية التي راحت تنقل مرة عن لسان المشنوق، ومرة أخرى عن أوساطه، وفي الوقت نفسه تزرع مراسليها بين المعتصمين لنقل مطالبهم وأوضاعهم، في ظل ما يتعرضون له من ظروف صعبة؟ هل هو مشهد تلفزيوني يُصنع على أيدي الشاشتين المذكورتين اللتين دمغتا بثلاث أو أربع زوايا راحت تنقل ما يحصل داخل المبنى وخارجه، فيما باقي الشاشات تنقل من خلالهما؟ لعلّ اللحظة الذروة في اقتحام أمس عندما عادت كاميرا lbci، وتحديداً مراسلتها فتون رعد، إلى البث من الداخل بعدما انقطعت الصورة من مكان المعتصمين. وصفت المحطة هذه الخطوة بالحصرية، في وقت تستقتل فيه الشاشات على شحذ صورة أو تصريح تلفزيوني من الداخل بعدما كانت تقتصر فقط على أخذ الاتصالات من قادة هذا الاعتصام. أطلّت رعد وتوجهت الى الناشطين بالقول: "وزير البيئة يسمعكم. ماذا تريدون أن تقولوا له؟»، ليعود بعدها رامز القاضي (الجديد) ويكمل رسالته المباشرة من الداخل، ويدخل "قائد شرطة بيروت" العميد محمد الأيوبي مع عناصر أمنية مواكبة، حاملاً عبوات المياه الى المعتصمين كمنقذ لهؤلاء العطشى. بدا مرتبكاً أو متحفظاً من أسئلة رعد بأن القوى الأمنية استخدمت القوة والعنف مع المعتصمين. أمر نفاه الأيوبي وحرص على حلّ الأمور مع الشباب المنتشرين في الرواق. دخل الأيوبي ومعه كاميرات أخرى محلية وعالمية تنقل ما يجري من مستجدات وتصاريح لم تخلُ من الأكشن، مع دخول رئيسة حزب «الخضر» ندى زعرور لتتفاوض مع الشباب المعتصمين، آتية من مكتب وزير البيئة. أمر رفضه هؤلاء، وتحول المشهد الى هرج ومرج بين زعرور والناشطين، وسط تطاير الاتهامات بأن المعتصمين يريدون «تحصيل مآرب سياسية أخرى عبر ملف النفايات». استمر الشريط يدور حتى عاد الأيوبي بأمر: "خلص. كل وسائل الإعلام عليها أن تغادر". أُخرجت الكاميرات، وتم قطع كابل البث المباشر الموصول بكاميرا lbci بعدما عاندت الأمر.
تساؤلات ربما يجب طرحها، وسط ما يحصل اليوم في بيروت من تهريج إعلامي يحاول صنع مشهد تلفزيوني ثوري قد يتخطى الواقع أحياناً. مشهد تستقتل عليه شاشتا «الجديد» وlbci، وتأخذ البقية حصصاً من هذا الحراك الشعبي. حراك حوّله الإعلام إلى ما يشبه برنامجاً ترفيهياً يطلق الأحجيات للمشاهدين: هل سيستقيل وزير البيئة أم لا؟ من دون أن يضع خطوطاً هاتفية للاتصال ونوع الجوائز المقدّمة.