في الحقل الاجتماعي، هناك واقعٌ يعقّد التحليل، ولكن لا مناص من مواجهته، وهو أنّ «الطبقة»، كمفهوم توصيفي وسياسي، ليست «غرضاً» (object) ماديّاً، موضوعياً، ضرورياً، يفرض ذاته بذاته؛ بل هي ــ كباقي التشكيلات الاجتماعية، كالأمّة، الإثنية، الطائفة، الخ ــ مفهومٌ ثقافي قبل أي شيء آخر، يبنيه المثقفون والسياسيون، وينظّرون له، وينجح عبر انتشاره في المجتمع وتحوّله الى أيديولوجيا وهوية.
من هنا، فإن مفاهيم كـ»الطبقة»، «الشعب»، «الفقراء»، «الناس العاديون» ليست ثابتةً ولا هي توصيف لشيء معطىً سلفاً، بل هي تخضع للتشكيل، والإبراز والإخفاء، عبر النقاش السياسي، وهي ليست عصيّة على التزييف والتسطيح. معنى «الطبقة الوسطى» في بريطانيا، مثلاً، يختلف تماماً عن «الطبقة الوسطى» في الإطار الأميركي (حيث تحيل، في بلدٍ يتميّز تاريخياً بانعدام الوعي الطبقي، الى شيء يشبه «عموم الناس»)، وعصر الهيمنة الليبرالية الذي نعيش فيه حثّ، منذ عقود، على تسطيح معنى الطبقة وتمييعه، وطرح تخيّل مختلف للمجتمع، تعتبر كلّ فئةٍ فيه أنّها «ملح الأرض» وسواد الناس.
السياسة الأميركية تقدّم مثالاً واضحاً على هذه العمليّة، حيث يروج في الوسط السياسي (منذ أيام لندون جونسون) خطاب عن «الطبقة الوسطى»، هيوليّ وغير محدّد، يمكن أن يجمع تحته كامل الشعب الأميركي، متجاهلاً كل الفوارق والاختلافات والتمايزات، في مجتمع مقسومٍ طبقياً بشكلٍ حادّ وقاس. منذ سنوات، مثلاً، أقام السياسي الصاعد جون أدواردز (قبل أن تفتضح علاقته بإحدى موظّفات حملته، التي أنجب منها طفلاً فيما زوجته تصارع السرطان، وتنتهي حياته السياسية) حملةً «شعبوية» ــ بالمقاييس الأميركية ــ تقوم على فكرة تخليص «الناس»، «نحن»، «الطبقة الوسطى»، من طغمة «الواحد بالمئة» التي تتحكّم بأميركا. هنا تصير «الطبقة الوسطى» رداءً فضفاضاً، يضمّ كلّ الناس، ويمحو (أو يخفي) كلّ الفروقات والتناقضات في المجتمع. إن كان جون إدواردز، وهو محامٍ مدخوله 150 أو 200 ألف دولار في السنة، يتكلّم عن نفسه ــ بثقة وصدق ــ كجزءٍ من «الناس العاديين» فمن، غير بيل غايتس، ينتمي الى النخبة؟

ساحة الاحتجاج لم
تشهد «غزواً» من الطبقات الشعبية، بل بضع عشرات من الشبان الفقراء


من الطبيعي أن يعتبر كلّ إنسان أن موقعه الاجتماعي هو «الوسط»، وأن يركّز على ما ينقصه، وأن ينظر دوماً الى من هو أثرى منه. في تجربة طريفة في جامعة «بيركلي» عن الفارق بين نظرة الفرد الى نفسه وبين موقعه «الإحصائي»، طُلب من التلامذة أن يصنّفوا أنفسهم طبقياً، فاعتبر ثلثا المستطلعين أنهم ينتمون إلى «الطبقة الوسطى». ثمّ تمّت مقارنة هذه النتيجة ببيانات التسجيل في الجامعة، حيث يبلّغ الطلاب عن مداخيل أهلهم، فتبيّن أن ثلثي الجسم الطلابي ينتمي الى الطبقة الوسطى ــ العليا أو الثرية (أي الخُمس الأعلى في المجتمع).
هذا «الوعي الزائف» هو الذي انعكس في خطاب الكثير من الناشطين اللبنانيين، الذين ــ حتى بعد «حادثة الخندق الغميق» وما تبعها ــ إمّا تجاهلوا القضية الطبقية في وسطهم، أو سطّحوها عبر ترداد «نحن الناس أيضاً»، «نحن نرزح تحت قروض»، «نحن نعاني». أو الإصرار، كما فعل «يساري عتيق» على التلفزيون، بأن الحراك جذب كلّ الطبقات ومثّل الجميع (كلّ من يعتبر أن تظاهرة ساحة الشهداء كانت متنوّعة طبقياً وتمثيليّة، لا يعرف شيئاً عن الطبقات أو عن المجتمع اللبناني). المسألة، أبناء الطبقة الوسطى، هي ليست أنكم أثرياء أو مرفّهون أو سعداء؛ المسألة هي أن الغالبية العظمى من شعبكم أفقر منكم بكثير. الانتماء الطبقي ليس عيباً، بالمعنى السياسي، العيب هو عدم الوعي بالموقع الطبقي. وأن يكون «اليسار» في انحدارٍ وغير فعّال هو شيء، أما أن يكون ــ كما شاهدنا في الأيام الأخيرة ــ طبقياً، فهي مصيبة.
عام 1988، في أسوأ أيام الحرب الأهلية، قامت تظاهرة ضخمة على جانبي خطوط التماس في بيروت، كانت أكبر مشهدٍ «مدني» يحدث في البلد منذ عقود (ولم يسفر، للأسف، عن نتيجة). المقارنة بين الحراكين تعطينا صورة عن تغيّر الطريقة التي يتمّ بها تمثّل «المجتمع» وفئاته، وعن التحول المطرد للبنان الى بلد أثرياء وفقراء خلال السنين الماضية.
في تظاهرة الـ 88، كانت «الفئات الشعبية» يدعوها الاتحاد العمالي العام، فينزل المعلّمون، بالآلاف مع نقابتهم، ومثلهم الموظفون، وسائقو السيارات، وباقي الفئات التي كانت تشكّل، معاً، جمهوراً تربطه مصالحه المهنية وموقعه الاجتماعي أكثر من الشعور الطائفي أو استتباع إقطاعيي السياسة. المجتمع السياسي اللبناني، في التكوين وفي الخطاب، قد تغيّر بالكامل اليوم.
فلنتذكّر أنّ ساحة الاحتجاج لم تشهد «غزواً» من الطبقات الشعبية الأسبوع الماضي، بل بضع عشرات من الشبان الفقراء، جاؤوا أساساً بسبب القرب الجغرافي، لا لأنهم ينتمون الى شبكات الحراك، وكانوا أكثر عدوانية تجاه قوى الأمن وأكثر فعالية في الاشتباك معهم من الجمهور الحاضر، لأسباب لا داعي لشرحها. فأنتج هذا الاختلاط البسيط كلّ هذه الضجّة، والارتباك، والكلام العنصري، ثم الاعتذارات، قبل أن ترتّب «التظاهرة النظيفة» يوم السبت. الحلّ هو ليس في أن تحوّل هؤلاء الشباب الى «فيتيش»، وترحّب بهم وتلتقط الصور معهم؛ الأساس هو في أن يصير هؤلاء ومن مثلهم، بصوتهم وأجندتهم وقضيتهم (وهي تختلف عن قضيتك)، جزءاً حقيقياً في الحراك. الأساس هو في أن تفهم أنّهم الأكثرية، وأنّك الأقلية.
ليس الهدف هنا الترويج لطبقية أخلاقوية، أو الدفاع عن «دمقرطة» الحركة كهدفٍ بذاته، بل هي مسألة استراتيجية لكلّ حراك اجتماعي في منطقتنا. لا داعي لأن نشرح أن «حزب الله» و»حماس»، وكل الحركات الناجحة في ظروف منطقتنا، قد تماهت واجتذبت مناصريها من جماهير تشبه «الخندق الغميق»، لا الطبقة الوسطى. ولا داعي للتكرار بأن يسارياً لا يكلّم الناس عبر تراثهم أو دينهم، ولا يكلّمهم عبر مصالحهم الطبقية، لا سبب له. سنضع المسألة على النحو الآتي: كلّ من أعرفه على هذا الكوكب قد ذهب الى تظاهرة يوم السبت. حتى معارفي ــ في لبنان ــ الذين يعارضون الحراك ذهبوا كـ»مراقبين» أو «متفرجين». بمعنى آخر، كلّ الجمهور المحتمل للحراك قد جاء ولن تكبر الحفلة أكثر: الطبقة الوسطى المسيسة و»غير المرتهنة»، النشطاء المحترفون ومحبو التظاهر، الصحافيون وأصدقاؤهم، جمهور المنظمات الذي يمكن أن نسميه (حتى نكون مهذبين) «المجتمع المدني»، المساكين الذين يعيشون على الفايسبوك. كلّهم أتوا، وكان المجموع أقلّ من تسعة آلاف متظاهر. بإمكانك، هنا، إما أن تقبل بالعمل ضمن هذه الحدود، أو أن تبدأ بـ»اكتشاف» مجتمعك.