تتحدد المهام المرحلية من خلال طبيعة المرحلة، ومن خلال رؤية التيار السياسي لمهام المرحلة. كان لينين في «خطتا الاشتراكية - الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» (1905) يرى طبيعة المرحلة بأنها ذات طابع بورجوازي ديموقراطي في بلد خرج من القنانة عام 1861 وما زالت العلاقات ما قبل رأسمالية سائدة فيه.
من هنا رأى بأن المهام ديموقراطية وليست اشتراكية وإن اختلف مع المناشفة حول قدرة البورجوازية الروسية على القيام بدور البورجوازيتين الانكليزية والفرنسية في ثورتي 1688 و1789 حيث رأى أن حزب الطبقة العاملة، وبالتحالف مع الفلاحين والراديكاليين الثوريين، هو من سيقوم بذلك. بعد وصول لينين إلى نظريته عن الامبريالية عام 1916 اختلفت نظرته، وهو ما تجسد في «موضوعات نيسان» عام 1917 عندما رأى بعد اسقاط القيصرية بأن المهام أصبحت مختلطة بين بورجوازية ديموقراطية وبين مهام اشتراكية، وأن الأولى طريقاً إلى الثانية في مهمة واحدة هي الاستيلاء على السلطة عبر السوفيات من خلال استغلال الحزب البلشفي لشعاري «السلم» و»الأرض». نجح لينين في الاستيلاء على السلطة عبر ثورة أوكتوبر1917، ولكن البلاشفة لم يستطيعوا ادخال روسيا في الاشتراكية بل قادوا ثورة بورجوازية عبر ثلاثة أرباع القرن كانت نهايتها «اقتصاد السوق» بديلاً من «رأسمالية الدولة» و»التعددية السياسية» بديلاً من «الحزب الواحد».
منذ نشوء الأحزاب الشيوعية العربية في العشرينيات لم تكن تحديدات المرحلة واضحة المعالم، وكذلك المهام، وقد اختلطت وتداخلت كثيراً مع الاستراتيجية السوفياتية تجاه المنطقة العربية، وكان السوفيات على الغالب هم من يحدد طبيعة المرحلة، كما جرى عام 1964 عندما حددوها بأنها في «مرحلة التطور اللارأسمالي». وبالتالي فإن المهام تتطلب لإنجازها نشوء «تحالف القوى التقدمية» مع عبدالناصر والبعثيين وعبدالسلام عارف، وهو ما قاد إلى ضغط موسكو لحل الحزب الشيوعي المصري واندماج الشيوعيين في «الاتحاد الاشتراكي»، وإلى «وثيقة آب 1964» الشيوعية العراقية التي كادت أن تقوم بما فعله الشيوعيون المصريون مع عبدالناصر ولكن تجاه حليفه عارف في بغداد، وإلى الضغط على سكرتير الحزب الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب للتعاون مع النميري حيث قاد رفضه لذلك إلى انشقاق الحزب عام 1970 عبر كتلة «معاوية ابراهيم - أحمد سليمان» ومن ثم اعدام محجوب بعد فشل انقلاب 19 تموز 1971 ضد النميري، ثم إلى الضغط على الحزب الشيوعي السوري للدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» عام 1972، وهو ما جرى أيضاً من قبل موسكو عام 1973 حين أجبر الشيوعيون العراقيون من قبل السوفيات للدخول في «الجبهة الوطنية القومية» مع حزب البعث الحاكم. تحرر الماركسيون العرب من هيمنة الكرملين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولو أنهم لم يستطيعوا بعد الوقوف لوحدهم على أرجلهم إثر حوالى ربع قرن من مرحلة «ما بعد موسكو». لم يقوموا حتى الآن بتحديد طبيعة المرحلة العربية الراهنة مع خصوصية كل بلد، ولا بتحديد المهام.

كلمة «الامبريالية»
هي مفتاح تحديد المرحلة العربية منذ قرنين

في هذا المقال توجد محاولة للقيام باجتهاد شخصي من أجل ذلك.
يمكن تحديد المرحلة العربية الراهنة بأربع قضايا:
1- كلمة «الامبريالية» هي مفتاح تحديد المرحلة العربية منذ قرنين من الزمن: هناك جهد غربي أوروبي ثم أميركي، للسيطرة على المنطقة العربية بدءاً من حملة نابليون بونابرت عام 1798. أخذ هذا أشكال احتلال، وسيطرة وهيمنة على القرار السياسي وعلى المقدرات الاقتصادية من دون احتلال، وزرع كيان استيطاني أخذ دور المخفر الأمامي للغرب الأوروبي منذ نشوئه عام 1948، والأميركي بدءاً من عام 1964، وتكبيل دول داخلياً وخارجياً من خلال اتفاقيات (مصر عبر كامب ديفيد والعراق من خلال الاتفاقيات مع واشنطن قبيل الانسحاب العسكري بنهاية عام 2011)، واستغلال الأزمات المحلية، المنفجرة عبر أسباب داخلية مثل الأزمة السورية منذ درعا 18 آذار 2011، من قبل قوى دولية واقليمية للوصول إلى تحكم مستقبلي بالأوضاع الداخلية وبالسياسات الخارجية للبلد، كما يمكن أن تأخذ عملية الهيمنة والتحكم بالقرار الوطني من الخارج (الدولي أو الاقليمي أو كلاهما معاً) شكل محاولة اللعب بمكونات داخلية، دينية أو مذهبية أو إثنية، من أجل استخدامها للتأثير الداخلي لصالح الخارج أو من أجل رسم خرائط جديدة أو التهديد بذلك. هذا يجعل من مهام المرحلة أن تأخذ طابعاً وطنياً عربياً، لمقاومة وإفشال كل ذلك وللتحرر الوطني وامتلاك القرار المستقل. يمكن أن يأخذ هذا طابعاً قومياً عربياً عندما تكون «الوحدة» أو «الاتحاد» أو «التكامل» بين دول عربية من أجل شروط أفضل لمقاومة الهيمنة الغربية والاسرائيلية أو الآتية من دول الجوار الاقليمي الصاعدة حالياً (ايران، تركيا، إثيوبيا، السنغال).
2- «الديكتاتوريات العربية» منذ الخمسينيات فشلت في تحقيق التحرر الوطني وفي مهام تحرير فلسطين وفي مهمة الوحدة العربية. بل إنها أنتجت بنى داخلية متخلفة ومفوتة تاريخياً والأكثر من ذلك بنى غير مندمجة داخلياً بحيث أصبح الانتماء الديني أو المذهبي أو الإثني هو الأسبق من الوطني أو القومي، أو من إيديولوجيات حديثة عابرة لتلك الانتماءات، عند فئات واسعة من مجتمعات عربية عديدة في تحديد الانتماء الفكري- السياسي وفي رؤية البلد وفي رؤية المواطنين الآخرين. بعد ستة عقود من الواضح أن «الديموقراطية» هي وصفة علاجية تترابط مع «الوطنية» لتمتين الداخل وتوحيده لذاته ومن أجل مقاومة «الخارج» والتحرر منه أيضاً، ومن أجل أن يشعر المواطن بالمساواة مع المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات. تترابط الوطنية والديموقراطية هنا وتكوِنان خطّاً واحداً، بالقياس إلى ديكتاتوريات وطنية أو قومية وإلى ديموقراطيين غير وطنيين راهنوا على الخارج الأجنبي لتحقيق هزيمة الديكتاتوريات بدءاً من تجربة المعارضة العراقية في غزو واحتلال 2003 ومن تبِع المعارضين العراقيين، من سوريين وسودانيين وغيرهم، على هذا الخط عربياً.
3- الانقسام الطبقي: الاقتصادي- الاجتماعي، يمكن تلمسه بوضوح في عواصم «طريق التطور اللارأسمالي»، والذي كان طريقاً بامتياز نحو رأسمالية جديدة نجد فيها أن الانقسامات والفروق الطبقية أكثر حدّة من التي نراها في الغرب الرأسمالي وأكثر قوة من الرأسماليات المحلية العربية القديمة في النصف الأول من القرن العشرين. هناك إرهاصات على أن هذا الانقسام الطبقي سيبدأ في ترجمة نفسه إلى السياسة العربية في بلدان عدة، مثلما نجد في عراق صيف 2015، عابراً المذاهب والأديان والإثنيات للتحدد فكرياً - سياسياً عبر إيديولوجيات عابرة لتلك التحديدات.
4- «التحديث»: قامت أنظمة «طريق التطور اللارأسمالي» بعمل صفقات مع رجال الدين قادت إلى عدم التحديث في «الدستور» وفي القوانين ومنها قانون الأحوال الشخصية. هناك تمييزات دستورية وقانونية ضد المرأة والأقليات الدينية والمذهبية والإثنية. وهناك عدم تناسب بين الواقع الدستوري - القانوني وبين الواقع الثقافي والتقني للمجتمعات العربية (ما عدا تونس). كان أتاتورك وشاه ايران وبورقيبة أكثر تطوراً من العروبيين في هذا الصدد. هناك حاجة إلى علمانية تحدد الفصل بين الدولة والدين، ولكن ليس السياسة والدين حيث يمكن تحت خيمة الدستور العلماني أن يسمح لأحزاب ذات إيديولوجية تستمد من الدين منهجها الفكري – السياسي، مثل الأحزاب الديموقراطية المسيحية أو حزب العدالة والتنمية في تركيا أو حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي في الهند، بالنشاط سياسياً.
هذه القضايا الأربع: «الوطنية» – «الديموقراطية» – «الاقتصادية- الاجتماعية» – «التحديث» تحدد طبيعة المرحلة عربياً ومن ثم تتحدد المهام وفقاً لطبيعة المرحلة. وبالتالي الوظيفية السياسية المرحلية للتيار الماركسي العربي: هذا التيار هو التيار السياسي الوحيد الذي يمكن أن يتبنى هذه المهام الأربع معاً.
الاسلاميون يتبنون المهمة الأولى، ولو أنهم في حالات معينة تجاه الخارج الدولي والاقليمي يستعينون بالخارج كما في سوريا 2011-2015 وليبيا 2011، ولكن يترددون تجاه الثانية أو يتعاملون معها بمصلحية، فيما هم ليبراليون في الاقتصاد، ومحافظون وغير حداثيين في مجالي الدستور وقانون الأحوال الشخصية. الليبراليون حداثيون وديموقراطيون ولكن غالباً غير وطنيين في طبعتهم القديمة (النحاس باشا لما فرضه الانكليز رئيساً لوزراء مصر يوم 4 فبراير 1942 ضد إرادة الملك فاروق عندما اقتحمت الدبابات الانكليزية قصر عابدين من أجل ذلك) وفي طبعتهم الجديدة (ليبراليو الدبابة الأميركية في بغداد 9 نيسان 2003 وأصحاب نظرية «الصفر الاستعماري»)، ومناصرون للفروق الطبقية وضد الحقوق الاقتصادية - الاجتماعية للفقراء والفئات البينية. العروبيون المعارضون وطنيون وهم مثل الاسلاميين تجاه الديموقراطية ومحافظون في وجه التحديث وغامضون في المجال الاقتصادي - الاجتماعي فيما الذين في السلطة وطنيون ولكن يفتقدون النزوع الديموقراطي والحداثي ووحشيون في رأسماليتهم.
يحدد هذا تلاقيات الماركسيين مع التيارات الأخرى والتباعدات حسب المرحلة وحسب تطورات اللحظات السياسية للمرحلة. أيضاً المرحلة عربياً في طبيعتها ومن خلال المهام المتحددة عبر طبيعة المرحلة تقول بأن المهام أمام الماركسيين ليست ذات مهام اشتراكية، وبأن ما قام به لينين في «موضوعات نيسان» كما كان غير صحيح روسياً، كما أظهر عام 1991 ضد عام 1917، فإن مهام الماركسييين عربياً لن تتجاوز مرحلياً، زائد المهمة الوطنية – القومية، ما طرحه ماركس في «البيان الشيوعي» (1848) لألمانيا وما طرحه لينين لروسيا في «خطتا الاشتراكية - الديموقراطية».
* كاتب سوري