Tattoo

كان لجدتي رحمها الله «تاتو». نعم كان على يدها عند المعصم. هي لم تكن تسميه كذلك. كان يسمى «دق». لا لم تكن جدتي «In»، كانت أميّة تحفظ الشعر وتقوله. لا يستقيم عرس أو عزاء من دون أشعارها الارتجالية وردّياتها. لم يكن «الدق» على معصم جدتي له غرض غير التجميل. لكن «الدق» على معصم «عمو جريس»، كان دينياً صرفاً يصوّر الصليب.

هو أيضاً ما كان يسميه «تاتو». تماماً كما لم يكن يسمي نتاج أرضه من خضر وفاكهة بعد تسميدها بزبل مواشيه، «بيو».
كان «الدق» من شغل النّوََر. أي البدو الرحل. ربما لذلك، كان يشير عادة الى بداوة ما في التجميل.
وفي احد الأيام، وبسحر ساحر، أعدنا استيراد «الدق»، ولكن مع «أومبلاج» ثقافي استهلاكي، فأصبح «تاتو» وانتشر موضة. ثم أعدنا استيراد المزروعات المسمدة بالزبل، أي روث البقر والغنم، تحت اسم «بيو». لكنها كانت أغلى بكثير من غلّة «عمو جريس»، «مال جبيل» كما كانوا يقولون في وراثة للفظة عثمانية تفيد الضرائب العينية التي كان يجنيها المحتلون الأتراك من المناطق، فيقال مال جبيل أو مال عكار أو مال بعلبك.

المندسون الذين نعتتهم «لوريان لوجور» بالكلاب، عرفت أنهم مندسون من نوع التاتو على أذرعهم وصدورهم. أي أنها عرفتهم من «التاتو» المزيف الذي ليس بـ«تاتو». فـ«تاتو» الفقراء لا يمكن أن يكون إلا «دقاً». وكل الفارق يأتي من موضوع التاتو والطبقة الاجتماعية للموشوم. فإن كان على شكل «جمجمة» وكان الموشوم من المتحدثين باللغات الأجنبية فهو «تاتو»، أما إن كان على شكل حورية «مفشكلة» على صدر صياد بحري، أو سيف الإمام علي على صدر ابن ضاحية من ضواحي الفقر لا يعرف من الأجنبية إلا كلمة «تاتو»، فهو مجرد «دَق».
لا تعرف جماعة التاتو اسم «الدق»، لكنها أشارت الى أصحابه على أنهم مندسون في تعبير لغوي عن رفض اجتماعي بلغة متعالية، وهم بالفعل كذلك. فقد اندسوا بتظاهرة لا تعنيهم، حسب عقل أهل التاتو! فما معنى أن يأتوا من بيوتهم التي هي على مسافة أمتار من «الداون تاون» ليشوّهوا «مدنيّة» هذا التحرك المهذب، الآدمي، ضد طمرنا بالزبالة؟ فهم مطمورون منذ مدة طويلة بمكبّاتنا الاجتماعية التي نسمّيها ضواحي أو أطرافاً. هم هناك منذ فترة طويلة إلى درجة أنهم أصبحوا هم المكبّ بحدّ ذاته: لا عمل، لا زواج، حتى لا هجرة نظامية! فهجرتهم لها اسم آخر: مهاجرون غير شرعيين. تنتشلهم شرطة سواحل البلاد التي يقتحمونها من زوارقهم المرتجلة تحت ضغط رأي عام، أو يتركون في اليمّ يصارعون الموت فيصرعهم، كذلك بضغط رأي عام يشبه أهل التاتو.
هم معتادون خرق القوانين من أجل الحصول على أبسط الحقوق. الدولة هي العدوّ، لذا يحطمونها. المؤسسات ترفضهم، لذا يحطمونها. فالسلطة المنتحلة صفة الدولة، نهبتهم وجردتهم من أي سلاح يمكّنهم من الحفاظ على آدميتهم ومواطنيتهم. وقد اعتاد العالم أن نصدّر له «وجّ السحّارة» من شبابنا وبناتنا بعد أن نكون قد بذلنا «دم قلبنا» في تعليمهم. هم يأخذون «بريميوم» أجيالنا، أما «النفو» بلغة مزارعي التفاح، أي ما تساقط عن الشجر أو لم يكتمل نموّه، أو شكله «مبعجر» فهو للاستهلاك المحلي أولاً، ثم الحيواني. فما دخل «النفو» في تحرك «بيو؟».
ولكن، لا بد من ملاحظة هامة لتصويب التعابير: فالمندسون هم أولئك الذين ترسلهم الأجهزة الأمنية لتفريق تظاهرة أو إثارة شغب يبرر تدخلها بعنف. لذا، لا يمكن أن يكون هؤلاء مندسين يا أولاد الجامعات. هؤلاء مشاغبون، وهي مفردة أخرى تشير الى الذين لم يعد لديهم أي إحساس بالانتماء الى «هذه» الدولة، أو بالأصح السلطة لأنها تسرقهم ولا تعطيهم إلا الفتات الذي يكفل استمرارهم تحت وصايتها.
هؤلاء ينتظرون الفوضى لينفّسوا طاقاتهم العدوانية تجاه مجتمع غير مبالٍ بهم. في هذا الضياع اللغوي الذي يقوده الحدس، أطلق المتعالون صفة مندسّين على هؤلاء، فجابههم كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي بنوع من «غنائية» احتفت بالمندسين وأفعالهم. احتفالية إنشائية في الجهتين. لكن الحقيقة هي بين الاثنين. فهؤلاء الشباب بحاجة إلينا لنمسك بأيديهم ونرشدهم، لا أن ننبذهم، فنعيد لهم إيمانهم بوطن مشترك يحصلون فيه على أبسط حقوقهم الآدمية. نحن من سيدلّهم على الطريق.
لذا، يا شباب الخندق، والطريق الجديدة والنويري وعين الرمانة وبرج حمود والكرنتينا وعكار وإقليم الخروب وبعلبك وبريتال وعرسال، يا من يأخذكم عرّابو المافيات اللبنانية رهينةً، لقاء واسطة عمل أو نمرة فان أو كشك إكسبرس يتحول شيئاً فشيئاً الى دكان قهوة وماء ودخان لسائقي الفانات، يا من تشِمون أجسادكم برموز أصبحت هويتكم لأنه لم يكن أمامكم غيرها، من حبال الهواء لتتعلّقوا بها، ولأنها الوسيلة الأقل كلفة (مع جِل الشعر) لتصبحوا «جغلات» و"تشدّوا" الفتيات: انزلوا الى الساحات واقلبوا هذه المزبلة على رأسنا، فنحن، إخوتكم في المواطنية، نستحق غضبكم، لأننا لم ننزل قبل اليوم فقط من أجلكم.
وبالعامية البليغة نقول لأولاد «التاتو»... كلوا سماد «بيو».

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم