ليس معروفاً بعد مَن مِن أهل الرضيع علي دوابشة سيلحق به. المؤكد أن أياً منهم لو استفاق فإنه سيصحو على كابوس لا يوصف. هنا تحار الأمنيات في طلب الشهادة لهم أو الشفاء. هم الآن يعالجون في مستشفيات الدولة نفسها التي أحرقتهم. هذه المفارقة اللعينة قد تستحق في يوم ما البحث فيها. ربما تعجز مستشفياتنا وخبرات أطبائها عن علاجهم، أو ربما يحاول الإسرائيلي أن يجمّل صورته، ولا صوت فلسطينياً قد يعترض على ذلك في ظل التطبيع الذي غزا كل شيء في حياتنا.
عبثاً هذا البحث في مكان علاج من نجا من لحظة الحريق، والضفة لم يحركها الدم. دم الطفل علي الذي جففته النيران لم يحرق أحداً بعد، سوى بعض وجوه السلطة «الكشرة». لا أعلم سرّ هذه «الكشرة»، هل هي الخوف من انقلاب السيطرة، أم حقاً إنها علامات الحزن؟ لقد جفّ دم علي دوابشة منذ جفّ دم محمد أبو خضير، ومنذ جفّت دماء شهداء الضفة الذين صاروا على موعد أسبوعي مع الموت.
لا أعلم كيف يستطيع من يحمل السلاح هناك أن يصبر في هذا الموقف. هل يمكن أن تسمى هذه «عقلانية»؟ أو هي فعلاً خيانة؟ لقد استسلمت الضفة لذبّاحها، وللمشهد نفسه الذي تكرره إسرائيل فينا منذ أكثر من ستين عاماً. بل لو قررت الخروج بنصف أهلها في الشوارع والانتفاض على الذل والحقد، قد يكون هذا هو المستغرب لا العكس. بالأمس القريب، كانت الصواريخ تدكّ أجساد 500 طفل في غزة، ومن لا يعلم فإن هذه الصواريخ تحرقهم أيضاً، وبالعامية هي «تشوي أجسامهم شوياً». في ذلك اليوم وبعده، لم يخرج أحد في الضفة ما عدا نفراً قليلاً، ببعض سكاكينهم وسياراتهم. ولعلّ أحداً لو غضب الآن، سيطل بنيامين نتنياهو الذي «زار» العائلة المنكوبة، ويعرب عن استغرابه من هذا الغضب. ليس لأنه وصف ما جرى بالإرهاب، بل لأن الغضب قد تأخر كثيراً عن موعده.
طبعاً ليس جلد الذات أمراً ممقوتاً دوماً. أصلاً هذه اللحظات هي أحق الأوقات بجلد الذات ومراجعة المشروع الوطني المتساقط بين عتبات التسوية الخائبة، وجرّ المقاومة إلى نفق السياسة. ها هي الضفة تحيا صباح مساء وتقيّدها أخبار حواجز الذل والرواتب المتأخرة وهموم القروض. هذا هو الوطن الذي حولته «القيادة» إلى شقة يسعى «المواطن الفلسطيني» إلى شرائها بالتقسيط، فيأتي أحد المستوطنين الإرهابيين ذات مساء ويحرقه وعائلته فيها. وهو نفسه الوطن الذي تكتفت فيه غزة عن الفعل، وأصبحت لا تقاوم إلا برد الفعل، ولا همّ يأكل أهلها سوى البحث عن المأوى والكهرباء.
لعل ثقافات بعض الشعوب التي دأبت على إحياء مراسم، ككربلاء، عوّدتها أن تبقى قضاياها حاضرة حتى لو كان عمرها ألف عام. أما الفلسطينيون الذين يعيشون تاريخهم حاضراً، فليس لهم ما يبرر استمرار الاحتلال أكثر من 65 عاماً، وليس لهم ما يبرر صمتهم على هذه الجريمة التي قبلها وقبلها.

لقد قلنا ذات يوم إن غزة أدت قسطها من التعب والدمار. هذا ليس في سياق الدفاع عن غزة والهجوم على الضفة. فالأخيرة أبدعت يوم أن كانت تقاوم. ولا يعفي هذا غزة من الرد إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لكن أهل البيت أولى بالفعل من غيرهم. تحديداً، أين «مراجل الضفة»؟ أين الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا قتل ابن عشيرة أحداً منهم. فيصبح الليل نهاراً من شدة الرصاص؟ هل يخافون حقاً؟ كيف يملكون الشجاعة للأخذ بثأرهم من أبناء جلدتهم ويخشون عدوّهم، أو ينتظرون أن يأتيهم الدور وتحرقهم النار؟
يبقى من نكد الزمان أن يخرج من أسّسوا للتنسيق الأمني مع العدو، يطالبون بالقصاص! لعلهم اليوم بعدما صاروا خارج الوطن تذكروه، أو يعملون بذلك على قطع تذكرة العودة، بالمزايدة على شركائهم في العار... العار الذي صادر أسلحة الضفة باسم النضال والطلقة الأولى.
أخيراً، لن تسمع أم علي صوته ولا مناغاته. بقيت فقط صورة لما كان يلبسه وعليه مكتوب: «صباح الخير... يا ماما». أما شقيقه أحمد فملقى مع والديه على فراش المستشفى. تحرقهم نار الحاقدين وضعفنا. نحن أفشل محامين لأعدل قضية. لذا لا تسامحنا يا علي.