«أريد ساعة لا تخرب»، هذا ما تطلبه الفتاة حكمت من رفيق دربها نزيه في الفترة التي يبدآن فيها حياتهما معاً والإقامة نهائياً في بيروت. لم تكن هذه الفتاة التي ستحمل اسم يمنى العيد لاحقاً، تبحث عن ساعة تُكلّف مالاً كثيراً، هي فقط تريد «ساعة لا تخرب». وسيكون لها ما أرادت، لكن في الوقت الذي يبدأ فيه كل شيء حولها بالخراب، بشكل تدريجي. وفي حين كانت هي مشغولة بتحقيق خطواتها على طريق «الأوهام العظيمة»، صار الوقت الآن مناسباً للاعتراف بكل شيء، بشجاعة توازي شجاعة تلك الخطوات التي سارت على ذلك الطريق وإن لم تصل في النهاية إلى شيء.
«هل أُعلن فشلي؟» كتبت يمنى العيد في مستهلّ الجزء الثاني من سيرتها الذاتية «زمن المتاهة» (دار الآداب) حيث «العالم الذي صبوت إلى تغييره لم يتغيّر، بل انتقل من سّيء إلى أسوأ»، وحيث «لم يعد الانتظار من صلاحيات عمري». تقول استاذة النقد العربي في الجامعة اللبنانيّة عبارتها صريحة وواضحة في خسارتها «مثل جيش مهزوم». وعليه ستكون مفهومة تلك النبرة الحزينة التي حملها «زمن المتاهة» والمختلفة تماماً عن نبرة الجزء الأول من هذه السيرة «أرق الروح» (الآداب ــ 2013). اكتفى الأخير برواية صيدا، حيث مسقط رأس الكاتبة والمساحة التي ستظهر فيها محاولات البحث عن الذات والإجابة عن سؤال «من أنا؟».

بعد اغتيال مهدي
عامل، هربت إلى اليمن
وبشكل آخر يمكن الحديث عن محاولات فكّ الاشتباك بين حكمت الصبّاغ ــ الاسم الأصلي لصاحبة السيرة ــ ويمنى العيد، وقد أمسكت الأولى بعجلة قيادة السرد، في حين بقيت صيدا سيّدة المكان لتظهر بيروت على الهامش.
ورغم خلو «أرق الروح» من أيّ إشارة تقول بأنه جزء أول من سيرة، فقد أتى «زمن المتاهة» ليُظهر أن يمنى العيد كانت قد أنجزت كتابها الأول وهي تحمل في بالها فكرة الجزء الثاني الذي لم تُعلنه. كانت مُخططة وواضعة تلك العناصر التي سيحملها الجزء الثاني. وفي حين أهدت كتابها الافتتاحي إلى مدينتها صيدا «التي رأيت فيها النور»، نجدها تهدي كتابها التالي «إلى بيروت» مع ذهاب عجلة قيادة الحكي فيه ليمنى على حساب حكمت التي ستبقى تظهر بين فقرات السرد وهي تعزز مهمّة التخفيف من قسوة جلد الذات التي تستخدمها يمنى. هذا ما ترغب من خلاله في تحقيق ولادة أخرى لتلك الذات، وهي «ولادة تودُ أن تقطع مع زمن مضى ولا يمضي». وهو ما سيكون مٌقترحاً مُمكناً لفهم آلية السير داخل «زمن المتاهة»، وإدراك الأسباب التي أدّت إلى ضياع فكرة بيروت المدَنية داخل حفلات الاقتتال الطائفية وانهيار صورة الجامعة الوطنية أمام الطغيان الطائفي ذاته، إضافة إلى أرواح الرفاق الذين اغتيلوا ولم يكملوا معها الطريق فبقت وحيدة.
سيبدو مفهوماً ذلك التعمّد باللجوء إلى مخرج «سيرة روائية» والكتابة من خلالها على نحو متخفف من أثقال الانطباعات المُحبَطة التي ستتولد لدى قارئ «زمن المتاهة»، وهو يرى «مُناضلة» أبقت أيّامها محكومة بالأمل، تروي باقي سيرتها بنبرة متنقلة بين «موت وموت» أو بلهجة «سجناء حُكم عليهم بالإعدام، وجوهنا إلى الأرض كي نحميها، وربّما كي لا نشهد على موتنا!». ستمضي صاحبة «تقنية السرد الروائي» بنبرة شجاعة وهي توزّع خساراتها على ثلاثة مرتكزات رئيسية: انهيار الدولة الوطنية، وضياع بيروت، و»الرفاق» الذين سقطوا برصاصات مجهولة.
انطلاقاً من نقطة قيادتها لـ «ثانوية صيدا للبنات»، كانت فتاة صيدا مستندة إلى فكرة المدرسة الوطنية واتخاذها معياراً أساسياً في عملية التغيير الاجتماعي والجسر الذي يمكن العبور من خلاله بهدف انتاج وعي يبنى على قاعدة الهويّة الوطنية لا الانتماء الطائفي. لكن الكارثة حلّت عندما استُغلّت فترة الحرب الأهلية لتكاثر المدارس والجامعات الخاصة وجعلها بيئة لتربية أتباع الطوائف واعلاء مبادئ هذه الطائفة أو تلك، من دون المرور على القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع أفراد المجتمع.
تستذكر العيد موقف التحقيق الذي عبرته كي تنال تصريح دخولها إلى كيان هيئة التدريس في الجامعة اللبنانيّة. «اكتبي في مجلة الآداب» قالت لها عميدة الكليّة عندما علمت أنها كاتبة في «الطريق» مع محمّد دكروب ورفاق الكتيبة الحمراء. تصبح الشيوعية تهمة و»الطريق» معادلة للكفر، في حين تبقى «الآداب» معادلاً للعروبة والإسلام، خلافاً للعيد التي كانت ماركسيّة غير حزبية «بل فكرية من أجل العدالة». ستنال يمنى ورقة الانتماء لهيئة تدريس «الجامعة اللبنانيّة»، لكنّها لا تريد لهذه الجامعة أن تُنسب إلى طائفة، أيّ طائفة كانت. تستذكر هنا تلك المقاومة التي قامت بها قبل أكثر من 50 سنة وهي حامل بطفلها الأول، حين أصرّت على المشاركة في إضراب من أجل إبعاد التقسيم الطائفي في عملية تعيين مدرّسي التربية ونجحت في ذلك. لكنّ الوضع لم يتغيّر لاحقاً. لن تكون بيروت بعيدة عن ذلك التمييز الطائفي لتصبح عند يمنى «بيروت التي لم تعد كما كانت». كذلك لم تعد أسماء الأمكنة قادرة على إيصالها إلى البيت، وصار الذهاب إلى مكان فيها مثل السفر إلى بلد آخر. ويبقى غياب الأحبّة وأصدقاء العُمر اغتيالاً، أحد الأسباب التي تدفعها إلى تمني الذهاب من الحياة «فالموت يُقرّبنا من أحبة أخذهم باكراً منّا، عشنا بعدهم على أمل نسيانهم ولم ننس، نقترب من الموت فنقترب منهم».
سيبدو الموت هنا مبرراً لظهور مهدي عامل أخيراً، أو أن يمنى تعمّدت جعله في صفحات الكتاب الأخيرة، كأن تأجيل الكتابة عنه محاولة لدعم فكرة نفي مسألة وفاته من الأساس. تروي حادثة اغتيال مَن قال إنّ «لبنان لن ينهض إلّا على أنقاض النظام الطائفي موحَّداً»، كأنها حصلت البارحة، بنبرة تشير إلى تفاصيل لا تزال حيّة في بالها، أم لعله بالتذكّر «يستيقظ الأموات، يحضرون، كأنهم لم يموتوا». لا تغيب الإشارة عن الذين رحلوا خلال السرد، فالذاكرة لدى صاحبة هذه السيرة حياة، والكتابة تعيد الحياة إلى حياة مضت ليحضر خلالها من غابوا «كأنهم لم يموتوا، يلّح عليّ زمنهم... هؤلاء ليسوا من الماضي، إنَّهم بعض مِن أنا، وأنا بعض منهم». وفي حين قتلوا عامل، كان اسم يمنى تالياً في القائمة هذا ما دفعها إلى ركوب الطائرة باتجاه اليمن «البلد الذي استضافني ليحميني من القتل».