تزريك على خطّ تماس

كان صوت السيد حسن يلعلع في الشارع تحت منزلي صباح هذا اليوم. كنت متجهة الى الشارع الرئيسي لأستقل "سرفيساً" الى المكتب، حين تناهى إليّ صوت السيد من بعيد. أخذت أفتش عن مصدر الصوت: هل هو المقاهي المحيطة بنا أم...؟ أصلاً السيد تكلم أمس فلم سيتكلم اليوم؟ هذا الحوار كان يدور في عقلي بشكل مستقل عن مركز اهتمامي، أي إيجاد سرفيس، الى أن اقتربت كثيراً من مصدر الصوت الملعلع إلى درجة لم يعد بإمكاني الانتباه الى غيره. وإذ بمصدر الصوت: شاحنة نقل أثاث كانت تقف تحت إحدى البنايات الفخمة في الشارع الجميل الهادئ والمؤدي الى المستشفى العسكري.

اقتربت من الشاحنة التي كان خلف مقودها رجل يمسك بسجل ما في يده، وهو يبتسم. كان الشباك مفتوحاً، بالطبع، فسألته متجاهلة: «عفواً... السيد عم يحكي هلق؟»، ارتسمت على وجهه ابتسامة أوسع، وبحركة غريزية، مد يده الى زر الراديو، أو المسجل على الأصح، ليخفضه «نكزة» لا أكثر، ويسألني كمن لم يسمع، لكنه يريد أن يربح وقتاً لتفحّص السائل قبل أن يجيب. «شو؟» قال. فأعدت عليه سؤالي، وأنا أتجاهل تحايله، محاولة استدراجه بابتسامة مطمئنة ليكون صريحاً. فقال ملتقطاً إشاراتي «لا لا... هيدا خطاب التحرير». حسناً، أفهم أن يستمع الإنسان مجدداً الى خطاب السيد يوم التحرير ومناسبات أخرى، فالسيد بصدقه وبساطته الممتنعان وبمهارته الخطابية وبلاغته، يشدّ القلوب قبل الآذان، خاصة إن كانت مناسبة التحرير تحل بيننا. لكن، ما معنى أن يفتح الشوفير الصوت ملعلعاً في فضاء الشارع السكني الهادئ، المجاور أولاً لمستشفى، ولو كان عسكرياً؟
سألت السائق «وليش حاطط الصوت ع العالي هيك؟». إذا به يجيبني ضاحكاً: «خليهم يسمعوا». التفتّ الى البواب السوداني الواقف يضحك وهو يستمع الى الحوار، ثم الى السائق، فإذا به يشير الى الأعلى، أي شرفات المبنى الفخم الذي كان ينقل أثاث أحد طوابقه!
سألته بغمزة تواطؤ «آه... مين يعني؟ بتعرف حدا هون؟»، فأعاد خفض الصوت «نكزة» وأجابني «آه؟؟؟ لا لا» وأكمل ضحكه!
حسناً: يبدو أن السائق يمارس الرياضة اللبنانية المفضلة: أي التزريك للخصوم، أو من افترض أنهم، لمجرد كون الشارع يبدو «غنياً!» خصوماً.
أفهم أن يعتبر الفقير الغني خصماً، ولكن لمَ لا يزرك بخطاب للرفيق خالد حدادة مثلاً؟ أو أغنية لزياد الرحباني؟ ما دخل السيد؟ ولمَ سيزرك «لهم» بخطاب التحرير؟ هذا يعني أنه يعتبرهم «14 الشهر». لمَ يكون الأغنياء 14 والفقراء 8؟ ما هذا الفصل؟ هل يمكن اعتبار اسم الشارع، أي بدارو، الذي كان خط تماس أيام الحرب الاهلية الساخنة، إشارة إضافية؟ فتصبح الترجمة: أغنياء من الخندق المقابل، وربما أغامر بالقول إنهم... مسيحيون!
مصيبة إن كانت هذه الملاحظة صائبة! أي إن الشعور الطبقي الذي اعترى الشاب لوجوده في شارع سكني «فخم»، هو محروم من هدوئه وحسن تنظيمه، ومجاورته لحدائق جميلة، ترجمه عقله المفروز بطريقة «سياسو/طائفية». فظيع.
تذكرت حادثة من أيام الحرب الأهلية رواها لي صديق كانت لديه مسؤولية عسكرية في أحد التنظيمات اليسارية في الشمال. قال إنه أيامها، وكان الخطف والخطف المضاد شغالاً بين الأحزاب، قامت ميليشيا يمينية بخطف بعض «الرفقاء» على حاجز البربارة، فصدر الأمر لخطف كتائبيين لمبادلتهم بـ«الشباب». صدر الأمر من مسؤول الموقع لمقاتل بعمل حاجز طيار لخطف «كام كتائبي لنبادلهم بالشباب». بعد ساعات وصل خبر أن «الرفيق» المذكور (أظن أن اسمه أبو الجماجم) «سوّح» أي قتل، بضعة شبان... تبين أنهم مسلمون، أي إنهم ليسوا على الأكيد في حزب الكتائب!
كيف فعل؟ استدعي «الرفيق» وسأله المسؤول: وله؟ ما شفت هوياتهم؟ فأجاب بغمغمة، فسأله المسؤول: «أبو (كذا) قللي بصراحة: إنت بتعرف تقرا وتكتب؟»، فإذا به ينكس رأسه ويجيب بأن لا. فسأله «لكن كيف فكرت انهم كتائب؟» فأجاب المقاتل الطرابلسي الإجابة السوريالية التالية «اللي لابس كرافة (كرافات أي ربطة عنق) كنت نزلو... لأنو أكيد بدو يكون مسيحي... يعني كتائب».
هذه رواية حقيقية يا أصدقائي من روايات وقصص الحرب الأهلية التي، كلها، لا تصدق، لو لم نكن شاهدين عليها. أتذكر أيضاً "تيسنة"، واعذروني على التعبير، الكثير من "جماهير" 8 آذار في عدم تلبية طلب السيد الامتناع عن إطلاق الرصاص لدى إطلاله. أحياناً نظن أن القائد أقوى من الجماهير، وأنه هو من يقودها، وأحياناً أخرى، تصبح الجماهير مشكلة القائد، خصوصاً تلك الجاهلة والمهيّجة طائفياً. ما العمل؟ قد يكون العمل مسؤولية القادة لتوعية الناس لكي يكون اتباعهم للفكرة السياسية ليس نابعاً من العاطفة أولاً، بل من العقل. كيف يكون ذلك؟ ليس شغلي. ولكن، ما أستطيع قوله حقاً، وبكل راحة، إنه، مع حفظ الفرق بين الحادثتين المذكورتين في أول المقالة، من المؤكد أن «عقلية» مشابهة لعقلية "أبو الجماجم" تطل برأسها المسخ علينا. فحين يتعصّب الجهلة، ولا يقدر الحكماء عليهم، ويصبح "التزريك" الرياضة المفضلة في بلد منهار ومخردق بالأجهزة، فإن جحيم الحرب الأهلية المستمرة هو ما سيكون عليه اليوم التالي.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 7/14/2015 12:01:08 AM

تحياتي... هيدول يا ست ضحى خزان. في حدا بيقدر يقلهم شي؟ بطبيعة محيطك العسكري يمكن انتبهتي انو لازم رفع المعنويات والجهوزية والتاهب. الخزان على طول لازم يكون حاضر باحلى اوضاعه. وتامين متطلبات الجهوزية للعسكر المدنية بتختلف عن العسكر العسكرية. وخردقة من فج وغميق. حدا سأل بياع بسطة الكاسيتيت والسي دي مين عم ينتجهم؟ لنقول مستر X عم ينتجهم. طيب ليش السكوت والرضى عن هالشي؟ معك حق لأن الحرب الاهلية ما انتهت. ولا بد الا تنتهي بغالب ومغلوب بيكفي. كر مال الجيل العاشر لقدام يلي يمكن يطلع منيح اذا حدا بيربح الحرب... هلق! والسلام

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم