في منزله في ضهور الشوير المجاور لتمثال «الزعيم» أنطون سعادة، يتذكر ابن بلدة العقيبة الكسروانية أنطون العلم «الزمن الجميل» داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي. الندوب التي خلّفتها الإصابات في يده اليسرى وقدمه تعيد اليه ذكريات النضال في صفوف حزب كان رئيساً لجهاز التدريب فيه، و«ما زلت أحتفظ بتسجيلات الاستشهاديين الذين دربناهم. ولكن، للأسف رأسمال الحزب أصبح تأييد المقاومة مقابل ثمن يقبضه».كسروان المعروفة بحساسيتها لـ»الغْريب» لم تتحسّس من فكر سعادة. براعم القومية بدأت بالتفتح فيها منذ أن أسس الأخير الحزب. انخرط العلم في صفوف «القومي» و«تعرفنا إليه من خلال الورقة والقلم. سرنا عكس التيار وسُجنّا من أجل الحفاظ على كرامتنا». من العقيبة «انطلقنا فالتقينا برفاق في باقي المناطق: البوار، حريصا، درعون، عشقوت، القليعات، ذوق مكايل، ذوق مصبح وجعيتا.

أرشدنا العديد من الشباب إلى الفكر القومي… وشاركنا في الحلقات الإذاعية التي كان يُنظمها الحزب في الجديدة».
المنفذ العام لمنفذية جبل لبنان العامة في الحزب (فرع علي حيدر) مارس قنيزح يقول إن «وجود الحزب في كسروان يعود إلى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. كان الحضور جيداً إلى أن حصل التقهقر نتيجة أحداث عدة». مرحلة الحرب الأهلية دفعت «منظمتنا إلى الانكفاء على نفسها. رفضنا القتال أو حمل السلاح، على العكس من المؤسسة الثانية».
وصل عدد القوميين في كسروان إلى نحو 400 انقسموا على 8 مديريات. بعد اندلاع الحرب الأهلية، استناداً إلى جوزف العلم، «القبضايات في المنطقة هجّرونا». وُضع القوميون أمام ثلاثة خيارات: مغادرة المنطقة أو الانسحاب من الحزب أو الموت. لذلك، «عمّمت قيادة الحزب علينا في تلك المرحلة وقف النشاطات الحزبية في المنطقة الشرقية... رغم ذلك اضطُهدنا فنزحنا إلى الحمرا في بيروت الغربية وضهور الشوير»، بعدما نُكّل بالعديد من القوميين في المنطقة. في المقابل، يروي المنفذ العام لكسروان ربيع واكيم، عن «رفاق كسروانيين لعبوا منذ البدايات دوراً في إيصال المفاهيم القومية، كالطبيب إميل مبارك»، ويشير إلى أنه كانت للقوميين «وقفات عز لإسقاط المشروع الصهيوني».
غير أن هذا لا يعني أن مسيرة «رجال سعادة» جرت بكل سلاسة في القضاء الذي يغلب عليه الطابع «المسيحي ــــ الماروني»، والذي يؤمن بنهائية الكيان اللبناني، فضلاً عن دور رجال الدين في التحريض على القوميين. رغم ذلك، لا يوافق أنطون العلم على أن كسروان منطقة مُنغلقة: «أنا من العقيبة التي لها فضل على الأمة»، ولكن «فُرض عليها التقوقع تحت بطش القوة والهيمنة المسلحة. القوى الحاكمة زرعت لدى الناس مفاهيم خاطئة». في هذا الاطار، يتذكر جوزف العلم الذي ترشح إلى الانتخابات النيابية في التسعينيات: «في الجولات الانتخابية ردّ فعل الناس لم تكن إيجابية بداية. السؤال الأساسي الذي كان يُطرح عليّ: لماذا قتلتم بشير الجميّل؟ والرد كان جاهزاً: الجميّل مقاتل مثلي مثله. من يحمل البارودة يجب أن يتوقع التعرض للقتل». كان الترشح الأول للقوميين بعد غياب «وحصلت في جبيل وكسروان على نحو 3000 صوت».
العمل القومي، كما يقول مسؤول القضاء، «لم يكن سرياً إلا عندما فرض علينا الاستسلام… أخذ العمل طابعاً علنياً بعد انتهاء الحرب، فكان لنا مرشحون للانتخابات النيابية والبلدية، إضافة إلى تنظيم الاحتفالات والندوات». واكيم طلب الأسئلة مُسبقاً وأجاب عنها خطياً. على الورقة رفض الاعتراف بتقلّص دور الحزب، ففي «قاموسنا دورنا لا يتقلص أبداً لأننا نعمل لأجيال لم تولد بعد. نحن نتراجع عندما تعلو أصوات تجار الطوائف والمذاهب ممن يُسمون أنفسهم رجال دين أو أحزاب»، ما يعني تلقائياً أن «القوميين ليسوا بحاجة لاستنهاض. فهم في حركة دائمة». إلا أنه في اللقاء معه يُسلم بأن «مرحلة التراجع كانت بين عامي 70 و90». النكران لدى واكيم ينسحب على جميع المسائل الحزبية: «ليس في حزبنا انقسامات على المستوى الفكري. قد تكون هناك تباينات لأداء بعض قياديينا. نحن حزب ديمقراطي نعالج مشاكلنا داخل صفوف النهضة ورئيسنا الأمين أسعد حردان يعمل دائماً لذلك».
إلا أن كلام قنيزح الذي يبدأ حديثه بالإشارة إلى أن «مؤسستنا تتميز بالانضباط أكثر من غيرنا، فنحن نطبق النظام ولا نرتهن لأحد»، يشير إلى العكس. ينتقد «المسؤولين المُعينين عند الرفيق أسعد، فلا رأي للقوميين على الأرض»، إضافة إلى «تصفية القوميين بعضهم لبعض، التي خلقت حاجزاً بيننا».
واكيم وقنيزح لا يعرف أحدهما الآخر، رغم «أننا نحاول العمل في كسروان والتواصل مع الرفاق القوميين». يقول قنيزح: «منذ ثلاثة أشهر نحاول تنظيم حلقات إذاعية مشتركة».

أخذ العمل طابعاً علنياً
بعد الحرب وكان للحزب مرشحون نيابيون وبلديون


مكتب منفذية الحزب في القليعات، مسقط رأس واكيم، تُعقد الحلقات الاذاعية فيه أسبوعياً. لا بيوت حزبية في باقي المناطق: «نسعى إلى ذلك، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة». أما عدد الحزبيين فيتستر واكيم على الرقم، «كل من يؤمن بالمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية نعتبره من مناصرينا... لا تخلو قرية من حضورنا. إلا أن الوجود يتركز أكثر في قرى الوسط حيث النشاط أوسع والوقت الذي يُصرف عليها أكبر». يؤمن المُنفذ بأن «الوجود ثابت لأنه لا خلاص إلا بنموذج القومي». يصطحب معه شاباً يتحفظ عن هويته لأن عائلته التي تؤيد قوى 14 آذار لم تدرِ بعد بتحوله السياسي. تعرّف الشاب الكسرواني إلى الحزب في الجامعة، ثم شارك في حلقات النقاش. يعرف أن وقع الصدمة على العائلة ومجتمعه سيكون صعباً. لا يهم: «وجدت لدى القومي أفكاراً ثورية غير تقليدية، وذلك بعد أن جربت العديد من الأحزاب». في البداية كان يخاف من الشعارات التي يرفعها الحزب، أما الآن فـ«أحب الطريقة التي يتواصل بها الرفاق معنا». مرحلة «الإعداد الفكري» للشاب لم تنتهِ بعد، قبل ذلك لا يُعَدّ جاهزاً لمواجهة مجتمعه.
مادياً «الحزب يتكل على نفسه. هذا يمنعنا من ترشيح أي رفيق إلى الانتخابات النيابية، ولكن نسعى إلى أن يكون لنا مرشح في المرحلة المقبلة». أما في ما خص العلاقة بين القومي والتيار الوطني الحر في كسروان، فـ«جيدة ومتينة، نتلاقى على الكثير من الأمور وطنياً وإقليمياً، ومن الطبيعي أن يُترجم هذا الأمر في الاستحقاقات الانتخابية». بالنسبة إلى حزبي الكتائب والقوات اللبنانية «اختلفنا معهما سابقاً لأنهما تعاملا مع الصهاينة فقاتلناهما. أما الآن، فخلافنا معهم حول نظرتهما للعمل الوطني وللمقاومة». ومع البطريركية المارونية «العلاقة جيدة حالياً، رغم أن المطرانية كانت تغيّبنا عن نشاطاتها في السابق».
نشاطات الحزب كسروانياً في المرحلة المقبلة لا تزيد على «الاجتماعيات»: تنظيم احتفال كبير، توزيع المناشير التي تضم المبادئ في جونية والهدايا في عيد الميلاد. يريد واكيم أيضاً «المطالبة بفتح طريق عام يسوع الملك لأنها شريان أساسي وتُقفل بسبب سكن أحد النواب (أنطوان زهرا) هناك». ولكن في النهاية «نحنا مش كتير سياسيين. نعمل عقائدياً».




قوميون «حردانون»: ضد المشروع الفارسي ــ التركي

مرحلة ما بعد الحرب الأهلية كانت القشة التي قصمت ظهر الحزب، فدفعت العديد من القياديين والحزبيين إلى الانكفاء. يعتقد جوزف العلم أن المشكلة التي أصابت الحزب هي «وضع الاستخبارات السورية يدها عليه. وقعت الخلافات داخل الحزب وعينت القيادة مسؤولين لا خبرة لهم، غير عابئة بالقوميين القدامى». لم تتمكن القيادة «من خلق حالة في كسروان، لأن المواقف السياسية مخالفة للنهج الذي تأسس على أساسه. نحن كثر، ولكن أغلبنا خارج إطار الحزب». يتهم جوزف العلم «القيادة بالسير خلف من يُمولها. نحن تركنا الحزب ولكننا لم نترك العقيدة». يزيد بأنه «عار أن يموت مناضل قومي في سبيل المشروع الفارسي – التركي أو أي مشاريع أُخرى... نحن أمضينا عمرنا في المخاطر، ألا يحق لنا أن نتأسف على شبابنا؟».
على الرغم من الخلافات مع قيادة «القومي»، يؤكد أنطون، شقيق جوزف، أنه «لا يُمكن الانتقال إلى حزب آخر». وجد الحل بأن يعمل «مع مجموعة من القوميين بشكل رديف للحزب، نحاول أن نتلمس الطريق لتخليص حزبنا... حاولنا منذ أربع سنوات تأسيس حركة النهضة السورية القومية، ولم نتمكن من مباشرة العمل بسبب الضغوط التي مورست علينا». بالنسبة إلى هؤلاء «لم تعد المُشكلة بـ(رئيس الحزب) أسعد حردان، بل بالنهج المُتبع... كان القومي مثالاً للناس. الآن باتوا يتفادونه». جوزف يقول إنهم «زعلانون ومحبطون. الشعار تحول من البقاء للأمة إلى البقاء من أجل النفوذ».