ينحدر طارق الإدريسي (1978) من مدينة الحسيمة في الشمال المغربي. هناك، نشأ على تاريخ من النار والقمع والغازات السامة والعراك مع الاحتلال والاستبداد. درس الفيلم الوثائقي في مدريد، وعاد ليعمل في عدد من الأفلام المغربية. افتتح الفيلموغرافيا الخاصة به بالعودة إلى الجذور ونكئ الجراح. «أرهاج» (السم ــ 2007) وثائقي عن الغازات السامّة التي استخدمها الاحتلال الإسباني ضد ثوّار الريف في عشرينيات القرن الفائت.
نال عنه الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، وجائزة الجمهور والصحافة، في الدورة الأولى من «المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة» في الناظور (عام 2012)، إضافةً إلى جائزة أفضل إخراج في «المهرجان الدولي للفيلم القصير والشريط الوثائقي للدار البيضاء». بعده، أنجز الشريط القصير «الدنيا تتقلب» (2013)، وجال عدداً من المهرجانات المحليّة والدولية. أخيراً، استعمل آلة الزمن مجدداً للرجوع إلى «انتفاضة الريف» التي اندلعت بين 1958 – 1959.
في الوثائقي الطويل الأول «ريف 1958/ 59 – كسر جدار الصمت» (2014 ـ 77 د)، يفجّر أكياس الدم المتروكة في الجغرافيا النائية. شارك العمل في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي ضمن «مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي» الشهر الماضي بعد تحقيقه جائزة «أراكني – إسبانيا» كأول فيلم في «المهرجان الوطني للفيلم» بطنجة هذا العام. الشريط منع في المغرب، قبل أن يسمح به «المركز السينمائي المغربي» إثر عرضه الأول في بروكسل. لا يخشى الإدريسي نبش حقبة مظلمة من تاريخ بلده.

قوّة الشريط في
تحرّشه بأعلى المؤسسات
كالقصر والجيش
الاستقلال بعد معاهدة «إكس ليبان» المجحفة، لم يجلب السلام للريف المغربي. اشتعل الصراع السياسي بين حزب الاستقلال والقصر الملكي. دخل الجيش المنطقة للمرّة الأولى، ليبدو الأمر كاستعمار جديد. طالب السكان بإدارة شعبية، وبالاعتراف بكيانهم وهويتهم. استعرت الأحداث، وتدخّل حزب الحركة الشعبية. صعدت الجموع إلى الجبل، وعرف بعضهم معنى العصيان المدني. آلت الأمور إلى مواجهة عسكرية مأساوية. الجيش قمع «انتفاضة الريف» بالقوّة. بطش، وحرق محاصيل، وتحطيم ممتلكات، وسحل سجناء من جبل «بني حذيفة» إلى قلعة «طوريس». كل ذلك يلقيه الإدريسي في وجوهنا من دون تردد ولا مواربة. ثلاثة أطوار تنساب عبرها الكاميرا بخفّة وبراعة: العرض التاريخي، وفصول الانتفاضة، والتقييم الراهن. السينمائي الشاب باحث مثابر، منهمك في التفاصيل والزوايا المهملة، رغم ضخامة الطرح. يرمّم نقص الوثائق بالأنيماشن والشهادات الحيّة. يخوض في حوادث شهيرة مثل الصعود الشعبي إلى الجبل، ونجاة ولي العهد من حطام طائرته. تمرّ أسماء عدة، مثل محمد الحاج سلام أمزيان (زعيم انتفاضة الريف) واخوته، ومسعود أقجوج والجنرال «أوفقير» (قائد العمليات العسكريّة). شهود من الأهالي والجدّات والأبناء والصحافيين يؤسّسون لمانيفستو العسف والبؤس الذي يكمّله مختصون مغاربة وإسبان في التوثيق والتأريخ. طارق الإدريسي محرّض بارع أيضاً. ينجح في دفع شخصياته إلى البوح وإخراج «المسكوت عنه»، حتى لو بعد نصف قرن. بعضهم كشف عن تعرّضه للاغتصاب في تعرية تامّة أمام العدسة. من داخل التيه، تقفز الكاميرا إلى خارجه في الطور الثالث. يسرد الإدريسي نظريات مثيرة للاهتمام، ضمن سؤال حاد: هل كانت «ثورة» حقاً؟ يبدو أنّ تفادي انهيار الملكية في المغرب، كما في مصر (1952) وتونس (1957) والعراق (1958)، تطلّب بعض الخطط الخبيثة. لنشعل «تمرّداً»، يتيح إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية. نستغل صدق المتمرّدين واندفاعهم، ليستفيد حزب الحركة الشعبية من ذلك. هكذا، نحارب حزب الاستقلال ونظهر جانبه القذر. كذلك، يشهر مجهراً راهناً في إطلالة حديثة على المنطقة. رغم الزخم الحقوقي ونشاط جمعيات حقوق الإنسان و«هيئة الإنصاف والمصالحة»، إلا أنّ «بلد المصائب» (الريف) ما زال مهمّشاً. لا بدّ من الاعتراف والإقرار ثمّ الاعتذار. مطالب الإدارة الذاتية نفسها ما زالت عائمة على السطح. إذاً، نحن في صدد سينما الذاكرة السوداء، والحقيقة النسبية، والالتباس التاريخي، والأسئلة الشائكة. مَن أمر؟ ومَن نفّذ؟ ومَن استفاد؟ هذه دعوة صارخة إلى إخراج الشفرة المغروسة في الجلد.
قوّة «ريف 1958/ 59 – كسر جدار الصمت» في جرأة محتواه، وتحرّشه بأعلى المؤسسات كالقصر والجيش. فنياً، ثمّة جهد لافت في خلق معادلات بصريّة، واعتناء واضح بشريط الصوت. التماهي بين الوجوه والمكان والبيوت المهجورة، يرسّخ طزاجة القضيّة وحضورها في الذاكرة الجمعية. يؤخذ على الفيلم بعض الترهّل في المتن، وإعادة أفكار ومعلومات. كذلك، لا بدّ من الانتباه إلى عدد من القطعات الحادّة في التوليف، وتكرار الـ «زووم إن» على الوجوه بتواتر فائض عن الحاجة.