على الأرجح ان ابتسامة عريضة، بين الساخرة والخبيثة والشامتة على طريقة «أما قلت لكم»، قد ارتسمت على وجه ذلك السفير العارف، وهو يتسقط وقائع ما حصل في مجلس الوزراء يوم الخميس الماضي، ويستمع إلى مؤتمر ميشال عون الذي تلاه.ذلك أن أشهراً طويلة قد مضت على ما يشبه القطيعة بين السفير المقصود والرابية. كان الحوار بين الطرفين قد أضحى ضرباً من لغة الإشارات والتحولات. برغم التقارب الفكري بين الطرفين. غاب سعادته طويلاً، لكنه حرص في غيابه على إيصال رسالته الأخيرة، ولو بالواسطة، وكأنها على طريقة «اللهم اشهد أنني بلغت».

في أحد اللقاءات الأخيرة بينه وبين قريبين من الرابية، قال الرجل: سجلوا عندكم ما سأقوله لكم. سيمر مشوار الجنرال مع مسألة رئاسة الجمهورية بأربع مراحل. في الأولى سيكون هو المرشح الأقوى. بمعزل عن حظوظ نجاحه في تثمير هذه القوة، وبعيداً عن احتمالات أن يتحول من موقعه كمرشح أقوى إلى رئيس منتخب، لكنّ الأكيد أنه في هذه المرحلة سيتعامل معه الجميع على هذا الأساس. وسيسلمون بأن هناك استحالة في تخطي ترشيحه طيلة مدتها.
لكن، تابع السفير، وبحسب نجاح عون ومن معه في قطف تلك اللحظة أو هدرها، وبحسب استماتة خصومه الداخليين والخارجيين في محاولة اغتياله رئاسياً، ستأتي بعدها مرحلة ثانية، حيث ينتقل عون من المرشح الأقوى إلى الناخب الأقوى. لا يعود قادراً على الوصول إلى الرئاسة، لكنه يكون قادراً على إيصال من يريد إليها. هي مرحلة تسليم الجميع، من دون إعلان طبعاً، بأن الرجل قد تنازل عن حقه الرئاسي. وفي مقابل تنازله يجب أن يعطى حق التمسية. حتى الأطراف الخارجيون سيكونون مستعدين لقبول تلك المعادلة. فهم يعرفون أكثر من غيرهم أنه المستحق للموقع، بحكم تمثيله وقواعد الميثاق، لكنهم يدركون في المقابل أنهم هم من يمنعه من تكريس حقه هذا. وبالتالي سيكونون مستعدين للمقايضة بينهم وبينه: تتخلى عن حقك الشخصي. وتسمي من تريد.
بعدها، تابع السفير نفسه قبل أشهر طويلة، تأتي مرحلة ثالثة، تكون طبعاً نتيجة عدم التمكن من استثمار المرحلة الثانية، بحيث يكون عون قد فقد موقع المرشح الأقوى، وقد خسر حتى ورقة الناخب الأقوى. فيتحول في تلك المرحلة إلى الرافض الأول. أو صاحب الحق المطلق في الرفض. ومالك ورقة الفيتو الثابتة في الاستحقاق الرئاسي. في هذه المرحلة، لا يكون عون مرشحاً. ولا يملك القدرة على تسمية مرشح، لكنه يظل ممسكاً بورقة رفض أي مرشح لا يريده. في مقابل قدرة الآخرين المماثلة طبعاً على الرفض المقابل ايضاً. في هذه المرحلة، تصير عملية الانتخابات الرئاسية نوعاً من لعبة كرة طاولة. أو جوزة هند بين مجموعة «سعادين»، كما وصفها أحد خبثاء السياسة وخبرائها. تظل تتقاذف بينهم حتى ترسو على واحد منهم. شرط أن تظل خارج حلقة أسماء الأقوياء. بمعنى أن تنتهي اللعبة إلى رئيس مقبوليته مشتركة بين عون والآخرين.
وإذا لم تجرِ الاستفادة من تلك المرحلة، وإذا لم يلتقطها الجنرال، قال السفير: فبعدها تأتي مرحلة رابعة. حيث لا يكون مرشحاً. ولا يكون ناخباً. ولا يملك حق الرفض. بل يُفرض رئيس عليه، غصباً عن إرادته، وعلى عكس موقفه. وضرباً لكل ما يملك ويمثل.
كيف لسلوك كهذا أن يصير ممكناً وسط موازين القوى الراهنة؟ لا تتعجبوا ولا تستهولوا أو تستفظعوا. كان يقول السفير قبل زمن طويل. تذكروا كيف ولدت حكومة تمام سلام منتصف شباط 2014. كان قد مضى على تكليف الرجل أحد عشر شهراً. من دون جدوى. فجأة حققت مفاوضات جنيف النووية خرقاً. فولدت لحظة تقاطع سياسية بين مصالح واشنطن والرياض. التقطت باريس الفرصة، فطار عملاؤها إلى العاصمة الإيرانية. عرضوا معادلة من نوع: لماذا تفرطون بكل مكاسبكم الإقليمية، من أجل زاروبة لبنانية؟! كان الطرف الآخر حاضراً لتنفيذ الإملاءات الأميركية المدورة سعودياً. فصار لكم في بيروت حكومة... سكت السفير يومها لحظات. دار بعينيه على حدقات محاوريه، متأكداً من إنصاتهم واستيعابهم، قبل أن ينطق «جوهرته»: لن يتخلى حزب الله عن عون، لكن في تلك اللحظة، لن يكون قادراً على ضبط «الآخرين». فيكون مفترق ما، يسلكه فجأة أصدقاء وحلفاء. بحكم «المصلحة العامة وأوضاع البلاد ولقمة عيش الناس واستنفاد كل الوسائل»... حتى آخر المعزوفة. يكمل رجلا مار مخايل وحدهما الطريق معاً. ويكون مسدوداً!
قبل نحو أسبوعين، جاء إلى الرابية من يذكّر بقراءة ذاك السفير العارف. قال من باب التدقيق في التواريخ، أنه إذا صحت نبوءة الرجل، فالوقت بات داهماً. لا بل حده نهاية حزيران، موعد الاستحقاق النووي الجديد في جنيف. قد يمدَّد الموعد أياماً قليلة. على قاعدة أن دُرجة التمديد باتت معممة، لكن الاستحقاق يظل قائماً وداهماً. ضحكت الرابية يومها من ذلك التذكير. تماماً كما ضحكت قبل أشهر طويلة من إرهاصات السفير. كانت ولا تزال تردد أن هؤلاء يجهلون حلفاء الرابية، وحلفاء حلفائها. يجهلون صلابة مبادئهم أولاً. ويجهلون حتى حقيقة مصالحهم ثانياً. ويجهلون خصوصاً أن المسألة ليست حكاية رئاسة ثالثاً. كيف؟ فلننتظر ونرَ... ونسجل.