منذ سقوط مدينة الرمادي العراقية بأيدي «داعش» وهناك حملة شرسة تشنّ في الداخل الاميركي على الرئيس باراك اوباما. تتحدث شخصيات بارزة في الحزب الجمهوري، اضافة الى وسائل اعلام رئيسية، عن فشل اميركي كبير يعود الى مقاربة البيت الابيض في محاربة «داعش»، وعن تفوق ايراني في هذا المجال، خصوصاً أن الرمادي هي الساحة العراقية الوحيدة التي لم يكن لإيران وحلفائها العراقيين دور قتالي فيها. غير ان الحملة هذه لا تقتصر على موضوع سقوط الرمادي فقط، وإنما وجهت السهام كذلك إلى المقاربة العامة التي يتبعها الرئيس الاميركي في محاربة «داعش»، وحتى على استراتيجيته العامة في الشرق الأوسط.
مع توليه الرئاسة، سحب اوباما القوات الاميركية من المنطقة، واعتمد اسلوب الطائرات من دون طيار وعمليات الكوماندوس ضد من يعتقد انه يشكل تهديداً للأمن والمصالح الاميركية. هذا الاسلوب، الذي يبتعد عن العمل العسكري التقليدي، بات يعرف اليوم بعقيدة اوباما التي تهدف الى التخفيف من الموارد المخصصة للشرق الاوسط من اجل الاستدارة نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة التنين الصيني الصاعد.
يبدو حتى الآن أن أوباما ليس في وارد إجراء تغييرات في مقاربته
مع صعود تنظيم «داعش» لم يغيّر اوباما الكثير في هذه العقيدة، حيث أنشأ تحالفاً دولياً لمحاربة «داعش» يقتصر على استخدام القوة الجوية (المحدودة الفعالية حتى الآن). مع سقوط الرمادي تعالت الاصوات المطالبة بمقاربة مختلفة تماماً، حيث دعا اعضاء في الحزب الجمهوري، مثل رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ جون ماكين، الى وضع قوات برية على الارض تكون الى جانب القوات العراقية المقاتلة في الخطوط الامامية.
كذلك روجت وسائل اعلام كبرى لنظرية ان المقاربة المتبعة من قبل البيت الابيض ستسمح لـ«داعش» بالسيطرة على سوريا والتمدد اكثر فأكثر في العراق، وان منع هذا السيناريو يستوجب العمل على ازاحة الرئيس الاسد، الذي اتهم في المقابل بالتواطؤ مع «داعش».
الا انه يبدو حتى الآن ان سيد البيت الابيض ليس في وارد اجراء مثل هذه التغييرات في مقاربته، على الرغم من الضغوط الهائلة. فقد اعلن ارسال اربعمئة وخمسين جندياً اميركياً اضافياً الى العراق لينضموا الى ما يقارب 3100 جندي كانوا قد أرسلوا في وقت سابق، لكنه لم يجري أي تعديل على مهمة هذه القوات التي ستقتصر على التدريب. ولكن الرد الأهم على كل هذه الحملة جاء بالاعلان الاميركي عن استهداف ثلاثة من كبار المسؤولين في تنظيم القاعدة و«داعش» خلال فترة وجيزة بالكاد تجاوزت اسبوعاً واحداً. ففي منتصف شهر حزيران اعلن غارة اميركية في ليبيا استهدفت الإرهابي البارز مختار بلمختار (نفى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب مقتله). الأخير مطلوب في الولايات المتحدة لدوره بالهجوم الارهابي على مصنع للغاز في الجزائر عام 2013، والذي قتل فيه خمسة وثلاثين رهينة، بينهم ثلاث مواطنين اميركيين. بعد ايام قليلة فقط، اعلن غارة جوية اخرى كانت قد شنت في التاسع من حزيران في محافظة حضرموت اليمنية، استهدفت وقتلت زعيم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية ناصر الوحيشي، الذي يعد الشخصية الثانية في تنظيم القاعدة بعد ايمن الظواهري. كما اعلن في الثالث والعشرين من حزيران غارة في مدينة الموصل، استهدفت وقتلت عنصراً في الدولة الاسلامية يدعى علي عوني الحزري، وهو من التابعية التونسية يشتبه بتورطه بهجوم بنغازي الذي ادى الى مقتل السفير الاميركي السابق كريستوفر ستيفنز.
بالتالي يمكن الاستنتاج بأن الرئيس الاميركي يحاول بذلك توجيه رسالة الى الرأي العام الاميركي مفادها ان عقيدته المتبعة تأتي بإنجازات كبيرة على صعيد مكافحة الارهاب وتصفية من شاركوا بسفك دماء مواطنين اميركيين. كذلك يوجه اوباما رسالة اخرى الى منتقديه في الداخل، مفادها ان ارسال قوات اميركية من اجل المشاركة في حرب تدور في العراق او اي بلد آخر في المنطقة يعتبر خطاً احمر بالنسبة له ولإرثه الرئاسي، وهو على بعد حوالى عام ونصف العام من نهاية ولايته الرئاسية الثانية والاخيرة.
في الوقت نفسه لا يريد الرئيس الاميركي ان يذكره التاريخ بالرئيس الذي أعاد العراق الى حضن التنظيمات الارهابية بعد حرب اميركية استمرت اكثر من عشرة اعوام قتل فيها حوالى 4,500 جندي اميركي، وكلفت مليارات الدولارات.
وهنا تجدر الاشارة الى عدم ممانعة الادارة الاميركية بمشاركة حلفاء ايران العراقيين في الهجوم المنتظر لاستعادة الرمادي. (اشترطت الادارة الاميركية فقط ان تكون مكونات الحشد الشعبي تحت امرة الحكومة المركزية). هذا يعني ان اوباما ربما سلّم بتعزيز الدور الايراني في محاربة «داعش» في الساحة العراقية، وما يعزز امكانية ذلك هو زيارة رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية الاميركية جايمس كلابر الى بغداد عشية الزيارة الاخيرة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الى طهران، اضافة الى دراسة نشرها أخيراً معهد «راند» المقرب من البيت الابيض الذي يدعو الى تعاون تكتيكي مع إيران في العراق.
الا ان إيران، من جهتها، وجهت رسائل واضحة تؤكد انها ستتعاطى مع الساحتين العراقية والسورية كساحة واحدة. فبعد زيارة العبادي طهران ولقائه المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، عقد في طهران اجتماع بين وزيري الداخلية الايراني والسوري حيث تم الاتفاق على توسيع التعاون في المجال الامني ومكافحة الارهاب تبادل المعلومات والخبرات. غير ان الاهم هو الاعلان الذي جاء خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده الوزيران عن اجتماع ثلاثي يجمع وزراء داخلية ايران وسوريا والعراق قريباً في بغداد. على ضوء ذلك يطرح السؤال التالي: هل حاجة اوباما الى إيران في العراق ستؤدي الى سيناريو معاكس تماماً لما يريده خصوم أوباما في الداخل وبعض اللاعبين الإقليميين، بحيث يتم التعاطي مع العراق وسوريا كساحة واحدة، لكن وفقاً للأجندة الإيرانية؟
* باحث لبناني