عند المقارنة بين لينين وتروتسكي نجد الكثير من الاختلاف في أسس التفكير وفي زوايا النظر، رغم وجودهما في إيديولوجية واحدة وفي الحزب نفسه. لدى لينين التصاق أكثر بالتربة الروسية المحلية، رغم ادراكه لعالمية الامبريالية ولأممية الماركسية. عند تروتسكي يغلب العالمي على المحلي بل يحدده، وقد ظل في مجادلته، ضد نظرية «الاشتراكية في بلد واحد»، يرى أن نجاح ثورة أوكتوبر واستمراريتها مرهونان بنشوب ثورات في الوسط والغرب الأوروبيين. لا يمكن عزو هذا الاختلاف إلى خلاف نظري فقط، بل يجب البحث في الإطار الاقتصادي - الاجتماعي - الثقافي للقائدين الماركسيين الروسيين، أي تطبيق الماركسية عليهما.
متحدثاً عن تروتسكي وروزا لوكسمبرغ، يقول إسحق دويتشر التالي: «عانى هؤلاء الثوريون العظام نقطة ضعف خطيرة، فقد كانوا، كيهود، يفتقرون على نحو ما إلى الجذور» («دراسات في المسألة اليهودية»، دار الحقيقة، بيروت 1971، ص26). في عام 1875 جرى توحيد اتجاهين في الحركة العمالية الألمانية هما «حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي – الإيزيناخيون» و»اتحاد العمال الألماني العام- اللاساليون» في حزب واحد هو «حزب العمال الاشتراكي الألماني». كان «الإيزيناخيون» من الجنوب الكاثوليكي المتقدم صناعياً، وكان «اللاساليون» من الشمال البروسي البروتستانتي حيث قامت بروسيا بدور الاقليم - القاعدة بقيادة بسمارك في توحيد ألمانيا عام 1871.

منذ عام 1863 اصطدم كارل ماركس مع فرديناند لاسال بسبب مراهناته على بسمارك، وأيضاً عاب على الاشتراكيين من الجنوب الكاثوليكي، مثل أوغست بيبل وويلهلم ليبكنخت، اقليميتهم الضيقة ومحليتهم ورهاناتهم على النمسا الكاثوليكية في وجه بروسيا البروتستانتية أثناء حرب 1866. استمرت هذه الأسس للتفكير عند الكثير من الاشتراكيين الألمان في حزب نال عام 1903 ثلث أصوات المقترعين للانتخابات البرلمانية، وقد خفت كثيراً بعد انشقاقه عام 1918 بين شيوعيين واشتراكيين ديموقراطيين، ولكنها مازالت موجودة في ألمانية المعاصرة عند معسكر اليمين بين «الاتحاد المسيحي الاجتماعي» في بافاريا الجنوبية الكاثوليكية وبين «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» العابر للبروتستانت والكاثوليك. في عام 1972 عند انشقاق الحزب الشيوعي السوري وقفت الغالبية الكاسحة، ما عدا أفراد قلائل، من أعضاء الحزب الأكراد والشركس والأرمن مع خالد بكداش الذي وقف مدعوماً من موسكو ضد «مشروع البرنامج السياسي» الذي صاغته لجنة مكلفة من قيادة الحزب وكانت طروحاته ذات نفس عروبي ويحاول مزج الماركسية مع التربة المحلية العربية والسورية بعيداً عن التبعية للسوفيات ومديراً الظهر للنزعات الأممية التقليدية التي كانت موجودة عند الشيوعيين القدامى.
عند تروتسكي وروزا لوكسمبرغ نجد نزعة أممية كوزموبوليتية هي أقرب إلى العدمية القومية يشعر صاحبها بأن العالم هو موطنه وأمته. هذا لا نجده عند لينين الروسي ولا ستالين الجورجي. لا ينفصل هذا عند ماركسيين مثل تروتسكي وروزا لوكسمبرغ عن وضعية اليهودي الذي لا يشعر بأن له جذوراً (قبل تحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين عام 1948) في أي مكان، وهو ما يتم تصعيده نحو نزعة أممية يصبح فيها الوطن هو العالم والأمة هي الأممية. أيضاً إن البيئة الاجتماعية للطائفة اليهودية في روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية، وتجربة المذابح التي تعرض لها اليهود في معازلهم، مثل مذبحة مدينة كيشينيف عام 1903، يمكن أن تحمل حتى من قبل الماركسي إلى أيديولوجيته الحديثة، ولو بشكل مضمر، وأن تؤثر بشكل خفي أو غير إرادي، أي موضوعياً، على شخصية وطريقة تفكير الماركسي الآتي من هناك، كما أن العداوات الموروثة، والتي يحملها مواطن الغيتو أو ابن الأقلية اليهودية المعزولة والمكروهة والمستهدفة من الآخرين، ستلون وستحدد طريقة الرؤية للمحيط الخارجي عند الثوري الماركسي القادم من هناك في رؤيته لمجتمعه ككل. ولا يمكن لنغمة ونكهة ثورية أن تكونا مثل أبناء الأكثرية الماركسيين في نفس الحزب، حيث تكون شحناتها التدميرية أكثر صخباً وليس شرطاً أن تكون أقوى من حيث المضمون. كما تكون ذاتيتها وانفعاليتها والميل القوي إلى الرومانسية والنزعة البطولية أكثر، وهو ما يلاحظ عند تروتسكي فيما لا يلاحظ هذا عند لينين أو نيقولا بوخارين. والحقيقة أن الشحنة الانفعالية الثورية، ولو بشكل لا إرادي، لا يقتصر توجيهها على الطبقات المسيطرة بل تمتد إلى الأكثرية القومية وإلى الأكثرية الدينية- الطائفية. وفي الغالب يكون الإلحاد هنا موجهاً ليس على رفض الدين في المطلق وفي العام بل إنه محدَد ومعيَن على أساس رفض ومعاداة دين الأكثرية، فيما يكون إلحاد ابن الأكثرية الدينية موجهاً ضد دينه وضد كل دين ومبنياً على ذلك ومعيناً ومحدداً بهذا.
هذا يعني أن الخلفية الاجتماعية - الثقافية لمعتنقي أيديولوجية «ما»، بما فيها الأيديولوجيات الحديثة، تحمل معهم إلى تلك الأيديولوجية وإلى حزبها وحركاتها السياسية، وتختلط معها. وتكون عند ابن الأقليات الدينية – الطائفية - القومية - الإثنية أقوى، كمحمولات ذاتية، من محمولات ابن الأكثرية عندما ينتقلا معاً إلى أيديولوجية حديثة وإلى حزب واحد. ففي مجتمع ما قبل رأسمالي أو في طور الانتقال إلى الرأسمالية نجد اختلاط البنى الدينية والطائفية والقومية والإثنية مع العاملين الاقتصادي والاجتماعي ما يؤثر في جوانب الفكر السياسي والثقافة والسياسة. أكثر ما نجد هذا عند الأقليات الدينية المعزولة في معازل، مثل الغيتو اليهودي، وعند الأقليات الطائفية الموجودة في إطار جغرافي محدد وفي وضعية اقتصادية - اجتماعية معينة (فلاحون مثلاً)، وعند أقليات قومية أو إثنية ضمن نطاق جغرافي محدد داخل بلد معين، حيث أدى الاختراق الرأسمالي العالمي إلى انشاء آلية اندماجية في مجتمعات غير مندمجة، ما جعل تلك الأقليات الدينية – الطائفية – القومية - الإثنية تطمح إلى المشاركة ولعب دور فاعل في المجتمع. كانت القاطرة هنا هي الأيديولوجيات الحديثة، حيث كان الدخول في أحزاب علمانية أو متجاوزة للدين أو للقومية، أو لها طابع وطني عريض، يجعل الدور غير محصور في الإطار الأقلياتي الضيق بل يمكن أن يكون ذلك جسراً إلى تأثير واسع وأحياناً طاغ وربما أيضاً إلى أن يكون الدور هو المسيطر ثقافياً وسياسياً على المجتمع بأسره عبر تلك القاطرة. هذا شمل أوروبا الشرقية والوسطى في النصف الأول من القرن العشرين وأيضاً العالم العربي بالفترة نفسها. كان الإرتداد نحو الصهيونية عند الكثير من يهود أوروبا الشرقية والوسطى، مع هتلر، انتصاراً لتيودور هيرتزل على تروتسكي. في السياق نفسه يمكن القول نفسه بأن تحول الكثير من شيعة العراق من الحزب الشيوعي إلى حزب الدعوة في فترة 1959 -1975 كان انتصاراً للسيد محمد باقر الصدر على سلام عادل (حسين الرضي). وهو ما ينطبق أيضاً على تحول الأكراد العراقيين من الحزب الشيوعي إلى حزبي الملا مصطفى البرزاني وجلال الطالباني في فترة 1961-1979 حيث كان هذا التحول يعني انتصاراً لهما على بهاء الدين نوري وعزيز محمد. هذا الارتداد كان يعني فشل الاندماج، كما في حالة اليهود بأوروبا الشرقية والوسطى، أو أزمة اندماج كما نجد في عراق 1968-2015.
يريد الكاتب ان يثبت عبر هذا النص بأن الفكر السياسي لا تتحدد تقدميته أو رجعيته عبر صورته أو مضامينه بل عبر الوظيفية التي يقوم بها حامل هذا الفكر في مكان وزمان معينين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومدى خدمة هذا الفكر عبر تلك الوظيفية للتناقض الرئيسي الذي كان يعيشه ذلك المجتمع في المكان والزمان المعينين، أي خدمة الاتجاه نحو الاندماج الاجتماعي المتجاوز للتحديدات الدينية – الطائفية – القومية - الإثنية عبر علاقات رأسمالية حديثة في مجتمع جديد، فرضه الاختراق الرأسمالي العالمي على مجتمعات ما قبل رأسمالية كانت تعيش نظام الملل الدينية - الطوائفية، وذلك أثناء وبعد وإثر انفراط نظام الدولة الذي كان مبنياً على «الجامعة الدينية» للملة الكبرى، العابرة للقوميات والإثنيات، والمحيدة أو العازلة أو المحددة لأدوار وتخوم الملل الأخرى (روسيا القيصرية والدولة العثمانية). كما أن تحليل أسباب سرعة التحولات وسهولتها من أيديولوجية إلى أخرى لا يمكن تفسيره إلا عبر الوظيفية الاجتماعية للفكر السياسي عند حامليه، ما يجعله أقرب إلى العربة التي توصل إلى هدف محدد، حيث لا يؤمن أحد بفكر سياسي معين من أجل ذاته بل من أجل وظيفية معينة يراد توظيف هذا الفكر من خلالها في المجتمع.
* كاتب سوري