إذا قلنا أن الانطباع الأولي والسريع الذي تبثّه منحوتات فادي يازجي (1966) هو قوة التأليف، فإن انطباعات أخرى لن تتأخر في مزاحمة هذا الانطباع الأول، وتتعلق هذه الانطباعات بخصوبة التجريب وتنوع البحث وبراعة الممارسات التفصيليلة التي تجعل هذه المنحوتات تقترح صداقة فورية وحميمة على المتلقي أو الجمهور. ما يصلنا هو شغف الفنان بإنجاز أعمال عالية الجودة، وتجنيبها لأي تفاوت أو ضعف. هناك احترافية متماسكة تسمح له بالتصرف بالمادة الخام في المنحوتة، وكذلك بالتحكم بمآلات اللون والأشكال التي سبق لنا أن رأيناها في لوحاته.
هناك أصلاً شبه واضح بين كائناته النحتية وكائنات اللوحة، وهناك أحياناً انتقالٌ يكاد يكون طبق الأصل بين طرفي هذه الممارسة.
تتأكد هذه الجزئيات والملامح التي نعرفها عن تجربة الفنان السوري الذي تخرّج في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة في دمشق (1988)، ولكنه واظب على الرسم أكثر من النحت، واشتُهر برسم البورتريهات التعبيرية ذات القياسات الصغيرة التي حضرت على شكل مصفوفة هندسية أو رقعة شطرج في الكثير من أعماله التي استثمرت التراكم الفذّ الذي حققته التشخيصات التعبيرية التي سبقته في المحترف السوري، والتي تحولت في تجربته هو إلى منجزات ومقتنيات ذاتية يمكنها أن تنتقل إلى تجارب أكثر شباباً جاءت بعده أيضاً.
نستعيد هذه الانطباعات عن شغل فادي يازجي، ونحن نرى معرضه الجديد «طين وبرونز» الذي تحتضنه غاليري «تانيت» في بيروت، وتساعدنا الأعمال المعروضة في الاهتداء بسهولة إلى تلك التفاصيل المتناهية في الصغر التي يعتني بها الفنان ويحرص على أن تكون متقنة وقادرة على ترجمة طموحاته وهواجسه الفنية التي يبدو أنها باتت تتعرض أكثر لضغط الحالة السوريا الراهنة والمستمرة منذ أكثر من أربع سنوات.

منحوتة شجرة تحمل
ثماراً على شكل رؤوس
مقطوعة
علاقة المحترف السوري بالواقع والسياسة والتبدلات المجتمعية كانت متينة دوماً، ولعل منتجات هذا المحترف كلها قائمة على هذه العلاقة الخصبة والمتعددة الطبقات والنبرات مع الواقع السوري والإنسان السوري. لقد احتفظ هذا المحترف لعقود طويلة بهوية محلية أو هويات جزئية تتطور داخل هوية واحدة. تجربة فادي يازجي تتنفس وتعيش داخل هذه العلاقة التي تُستبعد فيها كماليات التجريب وإغراءات السوق الفنية المعولمة اليوم. يصطحب يازجي شخوصه وكائناته التي كانت تحتل مربعات صغيرة ومتجاورة في لوحاته إلى جداريات نحتية نافرة (رولييف) معروضة في سلسلة متتالية أشبه بسيرة ملحمية مصوّرة تتعاقب فيها المشهديات البشرية التي يحضر فيها شخص واحد أحياناً، أو شخصان، أو جماعة وعائلة، وتحضر أيضاً حيوانات وتنويعات زخرفية طالعة من ممكنات الطين الصلصالي الذي تساهم ألوانه الآجريّة المائلة إلى الترابي والأحمر في منح هذه المنحوتات الجدارية مذاقات قديمة وحديثة في آن واحد. مذاقات تقرّب المنجز الراهن من منجزات الأسلاف في الفن السوري والرافديني القديم. أحياناً نحس أننا أمام نُسخ وطبعات معاصرة لأعمال متحفية معروفة، ولكنها منقّحة ومزيدة بمجريات الواقع وراهنيّة مجرياته.
الراهنية موجودة في ملامح الوجوه الطينية التي تتزاحم فيها آلام الإنسان السوري اليوم. العيون المغمضة على مشاهدة مروّعة، وحركة الأجساد المنطوية على نفسها، والأجنحة التي وضعت على بعض الأكتاف لكي تحلم بالطيران. إنها رُقيمات أثرية ومعاصرة تكشف مهارة واضحة في استخراج التعبيرات الخشنة وصياغة أمزجة الشخوص وحيرتها وخوفها وتوقها إلى الحرية والحياة، ولكنها غالباً ما تبدو عاجزة أو مقموعة. لا نحتاج إلى أن نقرأ أسفل جدارية صغيرة إهداءً إلى المعارض السوري «عبد العزيز الخيّر» لكي نعرف الهواجس والآلام التي انعجنت مع طين هذه الجداريات، ولن تتأخر الرؤوس البرونزية التي تشكل القسم الثاني من المعرض في تذكيرنا برؤوس مقطوعة شاهدناها على الشاشات وفيديوهات اليوتيوب. الرؤوس المعروضة مقطوعة فعلاً، كما أن عرضها جانبياً أو مقلوبة على وجهها أو مسجّاة في وعاء يعزز فكرة أنها رؤوس ميتة وغير مرفوعة في وضعها الجسدي الطبيعي.
الترميز الجوهري لكل هذه الانطباعات والتأويلات نجده في منحوتة شجرة تحمل ثماراً على شكل رؤوس مقطوعة، ونجده كذلك في مكعب برونزي يحمل أشخاصاً بعدد وجوهه، وعلينا أن نتخيله يتدحرجُ لكي تتبدل أحوال الشخوص وتتبادل مواضعها في الأعلى وفي الأسفل، حيث الجميع مهددون طالما أن المكعّب السوري يتدحرج هكذا، ويمكنه أن يجرف في طريقه سوريا كلها.

* «طين وبرونز: فادي يازجي: حتى 10 تموز (يوليو) ــــ غاليري تانيت (مار مخايل). للاستعلام: 70/557662