قبل بدء رمضان، يحاول الصيداويون أن يستمتعوا حتى اللحظة الأخيرة بنهر الأولي. لا يحملون همّ الصوم الذي سيحرمهم السباحة والتنزه على ضفافه في ظلال «الكينايات»، بل يخشون من أن يكون المصير المحتوم بمنعهم من الوصول إليه، قد اقترب. «هل يكون هذا موسم الصيف الأخير الذي نمضيه هنا؟».
تساؤل يقرّع من يعدّ كينايات النهر آخر متنفس للصيداويين، لكنّ رجل الأعمال محمد زيدان، قرر نهاية الصيف الماضي، خنق ذلك المتنفس لأن أملاكه الخاصة تلامس ضفة النهر الجنوبية. وما دام «المالك سلطان»، استحدث جداراً إسمنتياً مرتفعاً على طول الضفة تقطعه بوابة حديدية محكمة الإقفال، حاجباً حتى رؤية النهر، إلا أن الحملة الإعلامية والأهلية احتجاجاً على مصادرة المتنزّه العام، دفعت زيدان إلى تقليل ارتفاع الجدار على نحو يسمح للمارة برؤية النهر وفتح البوابة أمام المواطنين (http://al-akhbar.com/node/194745).
قبل ثلاث سنوات
كان الخليج شاطئاً صخرياً للعموم

وإذا كانت المصالح الخاصة لم تقطع كينايات الأولي بعد، فإن مواقع صيداوية أخرى ملتصقة بالذاكرة الجماعية والثقافية والاجتماعية، أضحت صوراً من الماضي. من فندق صيدون إلى خليج اسكندر ومقام النبي يحيى وبحر العيد والواجهة البحرية حتى نهر سينيق، لم تعد اماكن للملتقى، بل للذكريات. إحياءً لذكراها أو محاولة لإحيائها، أطلقت مجموعة الدكتافون مع شركاء شباب وشابات من صيدا وجمعية الخط الأخضر ومبادرة للمدينة مشروع «مشي ت دليك». الشركاء جمعوا معلومات عن تلك الأمكنة من الدوائر الرسمية وكبار السن. يوم الأحد الماضي، قصدوا حديقة كينايات البحر العامة عند مدخل صيدا الشمالي، وقدموا عروضاً حية تحكي قصص الأمكنة. بين رواد الحديقة انتشروا ليدلوا كلاً منهم على جزء من ذاكرته، او ذاكرة آبائه. بين منصات العرض تجول المتنزهون. منهم من كان يتنهد بحسرة، ومنهم من كان يحاول الاستدلال على المواقع بشكلها الحالي. أثار العرض شجون الصيداويين، كاشفاً عن عجزهم عن تغيير الواقع، وإنقاذ ما بقي من تراثهم.
في ركن مطل على البحر، جلست نادرة أرقدان في خيمة على شكل قنطرة بيضاء. أضاءت الشموع وفرشت النذورات وعلّقت صوراً لمقام النبي يحيى، الذي تحاول محاكاته. المقام وكينايات الأولي كانتا نزهة الصيداويين. سيراً على الأقدام أو بـ»الحنطور»، كانوا يصعدون إلى المقام في تلة مار الياس (نسبة إلى كنيسة مار الياس المهجورة حالياً التي تحاذي المقام)، يقيمون طقوسهم الدينية واحتفالاتهم وجلساتهم، ويُحيي الأكراد عيد النوروز. سابقاً كانت البساتين تحيط بالمقام وتمثّل لوحة متصلة حتى البحر. منذ اندلاع الحرب الأهلية، وقع المقام في منطقة عسكرية وانتشر العمران فاصلاً بينه وبين البساتين والبحر. لم يعد مسموحاً للعموم بالوصول إلى المقام. زميل نادرة، محمد ياسين اختار الغوص في خليج أو بحر اسكندر. علّق فوق منصة عرضه، لوحة كتب عليها «أليكسندر باي»، محاكاة لـ «زيتونة باي». في إشارة إلى وصف استخدمه أحد المسؤولين لدى استعراضه للمستقبل الذي ينتظر الواجهة البحرية الجنوبية. قبل ثلاث سنوات، كان الخليج شاطئا صخريا للعموم من السابحين والصيادين. كان هناك جورة الوحش، حيث يتبارز الرواد على الغوص في الجورة الواقعة في قلب صخرة، وعلى انتزاع الطحالب من القعر. وكان هناك منحدر مياه يسمى الشلال، وحمام سباحة وناد رياضي معروف باسم حمام بدر، أنشئ عام 1962. وهناك الدري والوحلة والحصيرة، حيث تتجمع الثروة السمكية. هناك كانوا يحيون ذكرى النبي أيوب. أما الآن، فاختفى كل هذا، وارتفع مرفأ تجاري ومرسى لليخوت يجري تنفيذهما.
بحر العيد كان يلاقي بحر اسكندر. رُدم البحران باسم التطوير والتنمية والاستثمار. أحمد فقيه استقدم إلى الحديقة دويخة العيد، التي كانت تنتظر الاطفال في الأعياد بجانب خان الإفرنج، فيما تنتظرهم من ناحية البحر «شخاتير» لتأخذهم في نزهة بحرية. ألعاب الدويخة وصندوق الفرجة والمراجيح والشقلبية مع سكر الغزلة المعقود، كانت عيدية مرضية. القصف الإسرائيلي في عام 1982 دمر بيوت الواجهة البحرية المحيطة ببحر العيد. مؤسسة رفيق الحريري أكملت هدم ما تبقى منها حتى تلك القابلة للترميم. في عام 1995، قطع الأوتوستراد بحر العيد الذي استبدل بمقاه ومطاعم. أما محمد شعفاطي، فقد ألقى هموم ومخاوف الصيادين في «حسكة» والده. من خطر شركة «بترويين» إلى مشروع تطوير ميناء الصيادين المرتقب.
«كنا نتمشى على طول شاطئ القملة (الكورنيش البحري قبالة مسجد الزعتري حالياً) حتى فندق طانيوس (صيدون) بمحاذاة الملعب البلدي حالياً، حيث لا يمكننا المتابعة، فنعود». جزء من ذكريات صيداوي رواها لعبد الرزاق حمود عن فندق طانيوس أو صيدون. فندق الأثرياء توقف عن العمل مع اندلاع الحرب الأهلية، ثم قصف في اجتياح عام 1982 وسكنته عائلات مهجرة أخليت منه في عام 1988، حين دمّرت البلدية المبنى كلياً. في عام 2011، وقّعت البلدية الحالية عقداً مع الشركة اللبنانية للاستثمار والتطوير الفندقي لتشييد فندق في مكان صيدون.
رولا فارس اختارت إحياء نهر سينيق أو البحر المالح (سمي بسبب وجود ملّاحات فيه) عند مدخل صيدا الجنوبي. جبل النفايات ثم تصريف مجاري البلدات المحيطة بالنهر نحوه حوّلاه إلى مستنقع للصرف الصحي، برغم ما تثبته المراجع التاريخية عن احتوائه على أهمية أثرية.