لا شك أن انهيار الاتحاد السوفياتي خلق وضعاً وتوازناً جديدين في العالم، أديا إلى تراجع أحزاب شيوعية عدّة، وخصوصاً في العالم العربي، وتالياً لانكفاء الفكر. اليوم، وفي ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية وما يعصف في سائر الدول العربية ولبنان، ثمة مهام صعبة أمام الشعوب وأمام القوى الاشتراكية لمواجهة الأوضاع القائمة، فهل يستعيد هذا الفكر وهجه؟
هل يواكب المتغيرات الحاصلة؟ وماذا عن الإنتاج الفكري الاشتراكي عموماً؟
لا يرى لوركا رضا ـ وهو الاسم الحركي لأحد المناضلين في الحزب الشيوعي ـ أن العلاقة جدلية بين الخطاب والوجود، إذ يمكن أن تنهار الدولة ويستمر الفكر. فبرأيه: «لا شك أن الاتحاد السوفياتي كان الحاضن الأكبر للبيئة الفكرية، لكن انهياره لا يعني أن الفكر الشيوعي انتهى».
يقارن رضا بين الإنتاج الفكري الشيوعي اليوم وما كان عليه في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حيث كان هناك دور نشر خاصة باليسار الماوي والسوفياتي، وكان يصرف على هذا المنتوج بغزارة. ويذكر مثلاً دار التقدم في موسكو كنموذج. تلك الدار «التي ستجد حتماً من يموّلها ويدعمها، فيما لو قررت طبع 100 مليون نسخة كتاب دفعة واحدة، على عكس ما قد يحصل مع دار الفارابي مثلاً، فإذا ما أرادت طبع 200 نسخة من الكتاب نفسه»، علماً أن دور النشر «المختصة» بالمذاهب والطوائف هي الفاعلة، فـ»كل مذهب وطائفة لهما دور للنشر تطبع الكتب وتوزّعها مجاناً، في حين أن اليسار بالكاد يصرف على نفسه المأكل والمشرب».
هكذا، تسير المعادلة. كتب «المذاهب» تسير نحو القمة، والإنتاج الفكري الشيوعي يتراجع، حتى يكاد يكون معدوماً في لبنان، والسبب؟ الظروف التي يمر بها البلد، فالخطاب اليساري لم يعد جاذباً بسبب الانقسام العامودي المذهبي الحاصل، وأيضاً بفعل العوامل الذاتية الداخلية. يوضح رضا أن الرؤية الفكرية موجودة لدى الحزب، ولكن بلورتها للجماهير هو الذي يشكل الركيزة لإعادة إنتاج هذا الفكر من جديد. أما السبيل لتجديد الخطاب الماركسي على ضوء الراهن يحتاج، بحسب رضا، إلى توجه أكاديمي وتخصصي في العلوم السياسية والاجتماعية لأشخاص يحملون الفكر الماركسي، وإلى إعادة المدرسة الحزبية الشيوعية، وإنشاء مراكز أبحاث وتثقيف، وهذا يقع على عاتق الحزب الشيوعي.
على عكس رضا، يرى الكاتب عباس الحسيني أن أزمة الفكر والإنتاج مردها ضياع الرؤية لدى قيادة الحزب الشيوعي، ويُحمل الحزب مسؤولية تشرذم اليسار حتى «صرنا أمام شيوعي سني، وشيوعي شيعي، وشيوعي 14 آذار وآخر 8 آذار».
مع ذلك، يؤكد الحسيني أن اليسار أمام فرصة تاريخية في ظل استفحال المذهبية، «وهذا وقته ليقدم خطاباً وطنياً علمانياً إنسانياً جامعاً، بعيداً عن الإلحاد ومتخطياً الحسابات الضيقة»، إلا أنه يستدرك «ليس بهذه القيادة الحالية، التي نحب ونحترم».
المقولة معكوسة تماماً على الأقل بالنسبة لدار الفارابي، هذا ما يقوله مدير عام الدار حسن خليل، فالإنتاج الفكري الشيوعي متقدم، «فالكتب الماركسية وتحديداً أمهات الكتب الماركسية هي الأكثر مبيعاً، تأتي في المرتبة الثانية بعد روايات أمين معلوف». أعادت دار الفارابي إنتاج كل الكتب الكلاسيكية، والتي تعتبر الأساس الفلسفي والنظري للفكر الماركسي من سنتين حتى اليوم ضمن برنامج إعادة الانتاج. «السنة الماضية أنتجنا كتاب (رأس المال) بنسخة جديدة منقحة ومطوّرة، ويكاد يكون من الكتب الأكثر مبيعاً في أكثر المعارض التي نقوم بها، وخصوصاً خارج لبنان». ولكن، كما يشير خليل الانتاج الحديث في هذا المجال ليس كبيراً وخصوصاً بالنظر إلى حجم القضايا الراهنة والتحديات المطروحة. فإلى اليوم لم ينتج إصدار حقيقي قادر على شرح ما يجري في الوطن العربي.
من جهته، لا ينفي رئيس الهيئة الدستورية في الحزب الشيوعي موريس نهرا أن الحركة الاشتراكية وخصوصاً بمنطلقاتها الماركسية لا تزال تمر بحالة أزمة تؤثر في فكرها. برأيه أن انهيار التجربة الأولى لهذا الفكر الاشتراكي لم يكن للفكر بذاته وإنما للفهم والتطبيق السوفياتي الذي تبعه ضرب متواصل لحركة التحرّر العربية وبالتالي العالمية. لكنه يرى أنه بعد مرور أكثر من 20 عاماً، صار هناك إمكانية لتفكير واع وإمكانية استخلاص العبر، مشيراً إلى أن الحزب الشيوعي اللبناني بلور فهمه للماركسية في خصوصية الوضع اللبناني والعربي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن الحرب الأهلية ومواجهة الاحتلال الاسرائيلي جعلت الهم متركّزاً على تشكيل جبهة المقاومة الوطنية ومواجهة النظام الطائفي.
لا يزعم نهرا أن هناك انتاجات فكرية كافية. وبرأيه يعود السبب إلى 3 عوامل: أولها أن قسماً كبيراً من الشيوعيين هم من جيل الحرب، والذي لم يتأسس على قاعدة فكرية ثقافية وسياسية بالماركسية، لأن المهمات العملانية السياسة والميدانية لها الأولوية. وثانياً الظروف العامة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضرب حركة التحرر الوطني العربية وأحادية القطب سبب نوعاً من التراجع، وثالثاً إن القيادات الموجودة الآن بمعظمها غير متفرغة للعمل الحزبي كلياً، ولديها وظائف مهنية بسبب مواجهة أعباء اقتصادية.
وعن موضوع رؤية الحزب الشيوعي، يؤكد نهرا أن هناك وضوحاً في الرؤية السياسية، موجودة في الوثائق والبرامج ولكن النقاش فيها غير معمم كما ينبغي، على أن أهم معضلات الحزب الشيوعي تكمن في ضعف العمل الإعلامي، «فليس لدى الحزب إمكانات تمويل تسمح بإيصال الفكر والطروحات الحزبية إلى الناس، فيظن الناس أن الحزب لا يعمل».
يبقى السؤال عما يمكن أن يفعله الحزب لإعادة بلورة فكره. لكن، متى يحين الوقت؟ متى يحين الوقت الذي لا نعود نردّد فيه أغنية «شو بدي قلك يا أسامة تعترنا وصرنا يتامى».