من فوق، فتحت لطيفة زيادة باب السجن الإسرائيلي ودخلت. فعلت ما بخل العالم السفلي عليها به طيلة ثلاثة عشرَ عاماً من الانتظار. هذه المرّة، لن يسقط حاجباها وينحل شعرها. ستدخل على ابنها الأسير مجد بشعرٍ أسودَ كثيفٍ ينسدل على كتفيها. هذه المرّة أيضاً، لن تنظر إلى عدّاد الأيام لتُحصي كم تبقّى من عمرها الذي ابتلعه السرطان. لن تعيش رهبة لقاء ابنها بعد مرضها الذي أتى على كلّ شيء فيها إلّا شبابيك قلبها المفتوحة على السجن.أمّا هو المحكوم عليه بالسجن لمدّة ثلاثين عاماً، فلن يقول: "بحبّك يما" بالتقسيط القاتل، ومن خلف الأسلاك والألواح الزجاجية. ستقع المسافات القريبة البعيدة في حفرةٍ تبيد زمن الحواجز والحدود الإسرائيلية. هذه الأيام، لا وقتَ للوقت عند أمّ مجد التي عاشت في المنتصف بين الحضور والغياب طيلة سنوات مرضها وجرعات الكيماوي. ستكبح جماح الزمن الذي ظلّ يمارس على ابنها تغييرات شكل الوجه، الشعر، الأصابع، الجسد، وهي منزوية في ثوب القهر بعيدة عنه.

مجد الذي فتح عينيه على عتمة السجن الإسرائيلي، وهو في التاسعة عشرة من عمره، ها هو يكبر من الشباب عتيّاً. كلّ شيء فيه تغيّر. قفز عن حاجز الثلاثين من العمر. إنه في عامه الثالث والثلاثين. ستظلّ مذكّراته فارغة من الحبّ العشريني. لربما وحدها حِيَل ومغامرات المراهقين مع بنات جيرانه ومدرسته ستُنحت في ذاكرته. أمّه من فوق لا تنهض من فراشها البتّة. هي لا تغفو كي تصحو أصلاً. عيناها تحدّقان في ابنها على مدار الساعة. هي تقول إنها لن تسمح هذه المرّة بأن يشتعل الشعر في ذقن ابنها وتتغيّر شكل ابتسامته، من دون أن تداوم عند رأسه، قدميه، صدره، حتى أظافر أصابع يديه.
أمّ مجد ستعيش جميع مراحل نضوج ابنها رغماً عن "إسرائيل". قبل ثلاث سنوات، مرّت الخمس والأربعون دقيقة التي جمعتهما بلمح البصر الخاطف، فما إنْ دفن رأسه بين ذراعيها حتى ودّعته. قال السجّان الإسرائيلي لهما "كفى"، لكنّها هي لم تكتفِ بتلك الدقائق التي يقطّرونها على أهالي الأسرى. ها هي تبتكر دقائقَ وساعاتٍ وأياماً وأشهراً، بل عمراً بكالمه تعيشه مع ابنها خارج الزنازين الإسرائيلية. في حضرة تلك الدقائق القليلة، وضعت أم مجدّ جرعات الكيماوي على الرفّ. كان موعد الجرعة يتقاطع مع موعد زيارة ابنها الذي غُيّب قسراً عن مقلتيها لسنين طويلة، لكنها انتصرت لليد التي ستمسح على جبين ابنها على حساب الكيماوي، وإن كلّفها ذلك عمرها.
طوت أم مجد جرعة الكيماوي، ومضت نحو سجن عوفر العسكري، حيث ستلملم رائحة ابنها وتحفظها في أعطافها. الطريق كان طويلاً من سجن نفحة الصحرواي، حيث يقبع ابنها، حتى سجن عوفر، لكن خواتيم الطريق عند مجد ستجبّ بداياته ومحطّاته. يهون كل شيء أمام وجه أمّه وحضنها. تروح مرارة الطريق والسجن ولا تجيء أبداً في تلك الدقائق الحلم. بسيارة الإسعاف وصلت أمّ مجد إلى السجن مع زوجها، لكن العدوّ الإسرائيلي استكثر على والد مجد أن يرى ابنه. احتال الوالد على ذلك الظرف المرّ. استرق النظر من بعيد ليرى مجد طويلاً، ويرتدي قبعة كحليّة.
ستبكي السماء، ويبكي الله عندما يحين اللُقيا. كلّ تناقضات مشاعر الكوكب ستحضر. دموع وفرح في آنٍ، فكلاهما تغيّرت ملامحهما. هو شبّ، وهي سقط كل شعرها، حيث نهش المرض خلايا جسمها. قالت ابنتها حرية آنذاك، وكأنّها تتهامس مع شقيقها: "ماما كانت سعيدة جداً. لم تستطع التوقّف عن التفكير برؤيتك. كلّ منا كان يفكّر كيف ستمضي الخمس والأربعون دقيقة، وكيف سيكون اللقاء. هل سيتركونكما وحدكما؟ كيف ستكون ردّة فعلك حينما ترى ماما للمرة الأولى بعد المرض؟ هل ستتحمّل ماما ألم فراقك مرة أخرى؟ كيف تستطيع أن ترفع يديها عنكَ عند انتهاء الزيارة؟".
"حينها تذكّرت آخر مرّة حضنتك ماما فيها يوم اعتقالك، وأنت بالتاسعة عشرة من عمرك. تذكّرتُ حين كنتُ أذهب معها إلى أقرب نقطة من سجن عوفر. كانت تبحث عنك، تحاول الاقتراب منك، لكنك كنت أبعد بكثير في مكانٍ ما وسط الصحراء. ها هي الآن ستذهب إلى سجن عوفر مرة أخرى بعد 11 سنة لتحتضنك مجدّداً، وأنتَ بالثلاثين من عمرك"، تكمل حرية رسالتها الطالعة من القلب إلى شقيقها مجد.
ورغم المرض الشديد الذي فتك بأمّ مجد، إلّا أنّ قواها لم تخُرْ يوماً. عاشت حرّة، وماتت كالأشجار وقوفاً بوجه "إسرائيل". انسحبت إلى السماء قبل أيامٍ قليلة، لكن كميّة الحبّ والفخار بها التي تدفقّت إلى صفحات الفلسطينيين كانت كفيلة بنفخ الروح فيها مجدّداً على الأرض. جَلَدها وحبّها الخالص لفلسطين لا يمكن إلّا أن يعلقا بذاكرتنا، وكأنّها هي عنقاء هذه الأرض. استجاب الله لها، فتركها تحلم وتحلم كما كانت تقول لابنتها حرية حين دخلت غرفتها وسألتها عن زيارة مجد.
انطفأت أم مجد يوم عقد قران ابنتها راية، وكأنّ الفرح المؤجّل قدر الفلسطينيين. ماتت من دون أن تفرح بطلّة ابنتها العروس. انقطع النفس عنها دون أن تنام نومتها السرمدية على وقعٍ حيّ لعبارة "بحبّك يمّا" التي قالها مجد من خلف الأسلاك والحواجز، وهي في سيارة الإسعاف على باب السجن منذ 3 أشهر. لكن رغم ذلك، "إيه في أمل". هي الآن صديقة والدتي في الأعلى. هما خَبِرتا عالم ما بعد الموت. العالم الصاحي أكثر منّا جميعاً.
لن يستهلك الوقت أمّ مجد مجدّداً. هي في حِلٍّ منه. ستنتظر ابنها 17 سنة حتى يحين الإفراج؟ ثلاثين؟ أربعين؟ مدى الحياة؟ لا يهمّ كل ذلك. هي الآن فيه ومعه. تسرّح له شعره، وتربّت على كتفه حتى ينام. اخترقت كل بوابات السجن وكسرت مفاتيحها. سيتزوّج مجد وينجب أحفاداً لأمّه. سيتحلّقون حول جدتهم فوق وستحكي لهم قصة والدهم. أمّا أمّي، فسترقص في الثامن والعشرين من الشهر المقبل في حفل زفاف شقيقتي الكبرى، وستغني لها "كبرت البنوتة كبرت ست الكل، صار بدها تتزوج تتركنا وتفل". حتماً، ستعيش أمي وستعيش أم مجد وابنها وأحفادها. سنعيش جميعنا، وستموت "إسرائيل". ستموت وسنكتب على قبرها "أرأيتِ كيف تكون "هيهات منّا الذلة"؟