تأمل وزارة الصناعة أن ترفع القدرة الإنتاجية للصناعات الوطنية لتؤمّن ما بين 50% و70% من الحاجات الاستهلاكية المحليّة، أي أن ترفع نسبة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي من 11.6% حالياً إلى 18%. هذه الأهداف «الطموحة» وردت في «الرؤية التكاملية للقطاع الصناعي» التي أطلقتها وزارة الصناعة تحت عنوان «لبنان الصناعة 2025».
إلا أن حجم المعاناة في القطاع وارتفاع أكلاف الإنتاج و«هيمنة» شركاء لبنان على ميزان التجارة، وصولاً إلى الدعم الذي تتلقاه الصناعات العربية والأجنبية المماثلة للصناعات المحلية بأشكال مختلفة... كل ذلك يطرح أسئلة حول مدى واقعية هذه الأهداف وقابليتها للتحقق خلال السنوات العشر المقبلة في ظل عدم وجود قوى ضغط دافعة نحو التغيير؟

نتائج غر مشجعة

جاءت كلمة وزير الصناعة حسين الحاج حسن عبارة عن ملخص لـ«الرؤية التكاملية للقطاع الصناعي»، والتي تمتد على فترة عشر سنوات، إلا أنه ضمنها أمثلة ووقائع عن المشاكل والتحديات الصناعية. وبحسب الحاج حسن، فإنه صار واضحاً لديه أن مشاكل القطاع الصناعي تنعكس مباشرة في ميزان لبنان التجاري الذي يسجّل عجزاً كبيراً منذ سنوات. فبحسب معطيات الوزارة، بلغ العجز التجاري 17.2 مليار دولار في عام 2014، وحققت الصادرات الصناعية 3.15 مليارات دولار، فيما سجّلت الواردات 20.3 مليار دولار، أما حجم مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي فقد بلغ 11.8% في عام 2013 (أرقام 2014 لم تصدر بعد).
ويشير الحاج حسن إلى أن هذه النتائج «غير مشجعة»، وأسباب ذلك أن الصناعة تعاني من مشاكل عديدة:
ــ ارتفاع الكلفة: أسعار العقارات التي تنشأ عليها المصانع مرتفعة، وأسعار الطاقة المستعملة في الإنتاج (المازوت أو الغاز أو الفيول) مرتفعة أيضاً، وكلفة العمالة مرتفعة رغم أن مستويات الرواتب تعدّ شحيحة. هناك أيضاً كلفة البيروقراطية وأسعار المواد الأولية التي في غالبيتها تستورد من الخارج، فضلاً عن التداخل والتشابك في صلاحيات الإدارات المعنية وضياع الحلول.
ــ الاتفاقيات التجارية مع الخارج: على مرّ السنوات، وقّع لبنان اتفاقيات تجارية مع الدول العربية ومع الاتحاد الأوروبي. وبحسب الحاج حسن، فإن لبنان «لم ينل من هذه الاتفاقيات إلا نقصاً في الصادرات وزيادة في الواردات. ومن بين كل الشركاء التجاريين للبنان والذين تميل كفّة الميزان التجاري لمصلحتهم، ليس هناك توازن سوى مع العراق رغم كل العراقيل التي تضعها الدولة العراقية». ويقدّم مجموعة أمثلة على هذا الوضع، فعلى سبيل المثال، إن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي أدّى إلى إلغاء الرسوم الجمركية على البضائع الواردة من أوروبا، فيما لم ترتفع الصادرات إليها «ومن أحد العوائق في التصدير إلى أوروبا: شهادات المنشأ. فعلى سبيل المثال، يقوم الأوروبيون بتحميص المكسرات (المستوردة من عدد معروف من الدول) مثل الكاجو والفستق وسواهما، ويصدرونها على أساس أنها منتجات أوروبية، لكنهم يرفضون الاعتراف بالمكسرات اللبنانية المحمّصة على أنها لبنانيّة المنشأ».

أسعارنا مضاعفة ثلاث مرات قياساً على أسعار شركائنا التجاريين

ــ الحماية وأشكال من الدعم: تتعرض المنتجات اللبنانية لمنافسة غير عادلة في الأسواق المحلية والإقليمية والدولية. هذه المنافسة ناتجة من الدعم الذي يقدّمه معظم شركاء لبنان التجاريين، أو نتيجة العوائق الإدارية والفنية المصطنعة، علماً بأن هناك شقّاً من المنافسة ناتج من حجم الإنتاج الكبير لدى بعض المصانع. الدعم الذي يحصل عليه المنتجون في الدول العربية والأوروبية يأتي بأشكال مختلفة، فهو يكون على شكل دعم الطاقة، وعلى شكل دعم النقل، ودعم التصدير.
أبرز مثالين على العوائق المصطنعة، تلك التي يتعرض لها مصنع ليبان ليه الذي يعدّ فرعاً لشركة فرنسية، لكنه لا يستطيع تصدير منتجاته إلى أوروبا بحجّة «أن السيطرة البيطرية في لبنان ضعيفة، علماً بأن لبنان ليس مصدراً لمرض جنون البقر وليس مصدراً لأنفلونزا الطيور والخنازير». والمثال الثاني، هو أن الدول العربية تضع عوائق على تسجيل الأدوية المصنعة في لبنان، رغم أن لبنان سمح لنحو 170 مصنّع دواء عربياً بتسجيل وتوريد منتجاته إلى لبنان، أما مصانع الدواء اللبنانية فلم يسجّل منها إلا 3 فقط.

الحماية التجارية

إذاً، هذه هي مشاكل الصناعة، فما هي الحلول التي يقدّمها وزير الصناعة؟
ــ التفاوض مع شركائنا التجاريين لتعديل وتطوير الاتفاقيات التجارية. ويؤكد الحاج حسن «من موقعي السياسي، نحن لسنا في حرب تجارية مع أحد ولا نستهدف أي طرف».
ــ التدابير الحمائية: هناك 3 خيارات لدينا: فإما أن ندعم رأس المال كما يحصل في كندا، أو ندعم الصادرات كما يحصل في تركيا ومصر وغيرهما، أو ندعم كلفة الطاقة كما يحصل في غالبية الدول. «نحن لا نريد أن نوقف الواردات من شركائنا التجاريين، بل نريد أن نوقف إغراقنا بمنتجاتهم ويمكن التوصل إلى حلول في هذا المجال».
ــ هناك مجموعة حلول مطروحة مثل «إصدار القرار المتعلق بإعفاء نسبة 50% من ضريبة الدخل على الأرباح المتأتية من الصادرات الصناعية، وتعديل المادة 17 من قانون الضريبة على القيمة المضافة والتي تعفي المواد الأولية والمعدات الصناعية من الضريبة المذكورة، وإقرار قانون الدمج بين المصانع، ودعم الفوائد على الرأسمال التشغيلي المخصص للصادرات الصناعية».

التغيير ممكن؟

في النتيجة، تسعى «الرؤية التكاملية» إلى «العمل على رفع القدرة الإنتاجية للصناعة الوطنية لتتمكن من تأمين بين 50% و70% من الحاجة الاستهلاكية المحلية، ورفع نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي إلى 18%.
رفع سقف التحدي إلى هذا المستوى يفرض الإجابة عن السؤال الآتي: هل يمكن تحقيق هذين الهدفين في ظل كل هذه المشاكل، والحلول المقترحة في ظل النموذج الاقتصادي القائم؟
الوزير السابق شربل نحاس يعتقد أن الخيارات الاقتصادية يجب أن تكون حاضرة لمواجهات صعبة «لأننا لم نصل إلى هذا الوضع الذي يصيب القطاع الصناعي بالصدفة. الكلفة المرتفعة والناجمة عن ارتفاع أسعار العقارات وأسعار المواد الأولية وكلفة العمالة والطاقة وسواها سببها السياسات المعتمدة. أسعارنا في لبنان مضاعفة مرتين أو ثلاث مرات قياساً على الأسعار لدى شركائنا التجاريين بسبب التدفقات النقدية». ويشير نحاس إلى أن أي تعديل في الخيارات الاقتصادية سيكون نافعاً لفئة اقتصادية على حساب أخرى، وبالتالي ستكون هناك معارضة لهذا الخيار. على سبيل المثال إن خفض أسعار الأراضي يتطلب فرض ضرائب أو وضع قيود على المنشئين، أي أن تجار العقارات سيرفضون فرض الضريبة وسيرفض تجار المباني ومنشئوها هذه التعديلات. إن تبدية مصالح معينة على مصالح قائمة أمر يجعل الاختلاف سهلاً ويجعل الفئات المتحالفة مع قوى النفوذ أقوى، وهذا تحديداً ما يحصل مع الصناعة في لبنان.
أما بالنسبة إلى السياسات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية التي تكبّل لبنان، فإن تعديلها أمر صعب. وقد أظهرت التجربة أن المسؤولين اللبنانيين «لا يفضّلون المواجهات». فإلى أي مدى ستقبل هذه الدول أو التكتلات الدولية أن تتنازل عن جزء من مصالحها ومنحها للبنان. وفي ما خصّ آليات الدعم، سواء الإجراءات الحمائية أو الدعم المباشر، ففي رأي نحاس «يجب التأكد من الآلية التي تجعل الدعم يذهب إلى الهدف منه».